صحافة ورأي

تونس فتحت باب القلب على مصراعيه بعد أن أوصدته بإحكام شديد – (الجزء الأول)

بقلم د. أيمن أبو الشعر

• ارهاصات عديدة جعلت من زيارتي لتونس حدثا هاما بالنسبة لي، وللجمهور التقدمي الأصيل في هذا البلد الجميل

العواصف
في الحقيقة لم أكن أنا من أغلق باب القلب ولا حتى نافذته المطلة على بحر التفاؤل بمستقبل أفضل، فقد هبت عواصف هائلة متلاحقة أغلقته مع النافذة بشدة وعنف، وكادت برياحها أن تحطمهما معا. وحتى لا نتوه في حيثيات هذه العواصف أشير باختصار شديد إلى أهمها:
أول عاصفة اجتاحت قلبي كانت الحرب بين رفاق الدرب في اليمن، خاصة أن علاقة جميلة ودية جمعتني بالرئيس على ناصر محمد، كما نشأت صداقة حقيقية رائعة بيني وبين الرئيس السابق حينها عبد الفتاح إسماعيل لعدة سنوات في موسكو، وكنت انطلاقا من معرفتي بالأجواء المشحونة قد نصحته بعدم السفر والانتظار قليلا حتى تهدأ الأجواء، لكنه كرفيق ملتزم قال لي هناك قرار من الحزب بعودتي ولا بد أن أنفذه وأعود، ثم كان ما كان واقتتل رفاق الدرب وقتل عبد الفتاح وآلاف الرفاق…. ثم هبت عاصفة أخرى كادت أن تدمر تاريخنا النضالي حيث جرى أمام أعين التاريخ والبشرية تفكيك أعظم دولة أممية اشتراكية وبخطى مدروسة، ربما كان غورباتشوف يود بصدق تحقيق مسار أكثر فعالية لكنه فشل، على أية حال الطريق إلى جهنم مفروشة بالنوايا الطيبة، وأنا بالمناسبة لا أعتقد ذلك، تبع ذلك انهيار المؤسسة التي أعمل بها، وهي أضخم دار نشر في العالم وما نشأ عن هذا الوضع من مخاطر عليَّ وعلى أسرتي ما دفعني للعمل باسم مستعار… ثم يجيء الربيع العربي الذي كان في خطواته الأولى حراكا جماهيريا مشروعا تماما ، لكن سرعان ما سرقته القوى الظلامية، وتحول مع انتقاله إلى البلدان الأخرى إلى “النجيع العربي”، وتحوَّل البلد الجميل الذي انطلقت منه شرارة إشعاعات الربيع الأولى إلى بلد مصدر للإرهابين الذين عاثوا في بلدي مع غيرهم من أصحاب اللحى الكثة والعقول الفارغة فسادا وإرهابا، حتى أطلقت عليهم تسمية يستحقونها حقا وهي “قاطعو الرؤوس”… يضاف إلى ذلك بعض الصدمات الوجدانية، فانطفأتُ روحا، وانكفأتُ جسدا، الأمر الذي انعكس حتى في بعض قصائدي في تلك المراحل، وبت أكتفي بأمسية في دمشق خريف كل عام لا تخلو قصائدها من رنة الحزن أحيانا، ولكن دون استسلام له، ودون إضاعة البوصلة النضالية…
“أيُّها الحزنُ الجميلْ
يا صديقي
يا مليكَ النبضِ في الإحساسِ
والصدقِ الجليلْ
يا شقيقَ القلبِ يا أصداءَ روحي
“مطلع قصيدة الحزن الألق”

الإنعاش والانتعاش
خلال هذه الفترة العصيبة التي عصفت بمشاعر اليساريين عموما، بدأت تأتيني من مختلف الأقطار العربية، وخاصة من السودان واليمن والأرض المحتلة، وبشكل مميز تماما من تونس رسائل عديدة تؤكد لي أن العديد من قصائدي أنعش دروبهم النضالية، فتحولت قصائد عديدة جدا في اليمن إلى أغان لحنها وأداها المطرب اليمني الكبير نجيب سعيد ثابت، وبلغني أن الشباب في المظاهرات في السودان كانوا يرددون قصائدي، وحوَّلوا قصيدة الصدى إلى مسرحية في جامعة الخرطوم، وكذلك رسائل نوعية من الأرض المحتلة ، لكن رسائل تونس كان لها وقع خاص وتأثير صارع تأثير العواصف المضنية، بدأ برسائل من بعض الشباب والشابات وخاصة الشاب الذي كان يراسلني باسم سبارتاكوس، ما أحيى ذكرياتي مع فرقة سبارتاكوس الموسيقية الفنية المسرحية، زد على ذلك أن الصورة المشرقة التي نقلها لي الشباب في تونس اتسعت حين شاهدت حوارا إذاعيا مصورا مع الإعلامية الدكتورة يسرى بلالي تتحدث فيه عن الدور الذي لعبته قصائد أيمن أبو الشعر وخاصة الحلم في الزنزانة رقم 7 في الشباب التونسي، وبشكل خاص الحراك الطلابي، فأدركت أن الشابات والشباب لم يكونوا يبالغون إطراء أو توددا، عندها تعمقت الاتصالات مع المؤسسة الإعلامية النوعية “الكتيبة”، واقترحت علي الدكتورة يسرى مشكورة أن أسجل أهم الأحداث والتجارب التي مررت بها، وانطباعاتي عن الشخصيات السياسية والإبداعية الكبيرة، منوهة بأن هذه المعطيات وإن عشتها أنا إلا أنها يجب أن تكون ملكا للجميع، والحقيقة أن السيدة آسيا إسماعيل ابنة عبد الفتاح إسماعيل كانت أيضا قد اتصلت بي وحرضتني على كتابة ما أتذكره من تجربتي مع اليمن، ولقاءاتي بمعظم زعمائها في الثمانينات، فشعرت بمسؤولية تستنهض إحساسي بالدور الذي أعتقد أنني خلقت له، وهو العمل على فتح مسارب نور نحو المستقبل الأفضل، تساعد الأجيال للسير باتجاه الشمس التي تبقى ساخنة مهما طغت عصور الجليد.

بداية الأسر
حين تعرفت عن بعد عن طريق بعض المراسلات والاتصالات إلى الدكتور وليد الماجري شعرت أنني أتعرف إلى أيمن أبو الشعر أيام شبابه، من زاوية الفعالية في مآربه الموضوعية والقناعات الفكرية، والحيوية والطموح نحو تحقيق رسالة تقدمية في الحياة، وسرني أنّه كان يفوقني خبرة إعلامية أكاديمية، فهذا اختصاصه الذي أبدع فيه إلى درجة كبيرة جدا، وكان حبورا كيسرى التي غدت بعد حين قصير من تعارفنا جميعا زوجة له، والحقيقة أنهما يليقان لبعضهما جدا، لذا كنت أنظر إليهما كأسطورة، وكانا حقا بودهما ولطفهما وصدقهما ومسارهما العملي شبيهين بالأسطورة في زمن يندر فيه أن ترى مثل هذا الثنائي الرائع، نعم أستطيع القول بثقة أن د. وليد الماجري ود. يسرى بلالي كانا عرّابا زيارتي إلى تونس والمحفزين الرئيسيين لتحقيقها، وقد قاما بكل الجهود وجميع ما يلزم لتنفيذها على أرض الواقع.
بعد أن كتبت على مراحل مقالات موسعة حول كل مرحلة، نشرت الدكتورة يسرى بلالي هذه المقالات في مجلة الكتيبة، ثم جمعتها وبوبتها في عشرة فصول، تبدأ بمقالة عن الصراع بين الحديث والقديم وانعكاساته السياسية، وانتقال الصراع واستمراره من جيل إلى آخر، لكي أوضح رؤيتي بأن الحياة هي تاريخ الصراعات المستمرة التي تتبدل وجوه صراعاتها أحيانا لكن الجوهر هو الصراع نفسه، ثم الفصول الأخرى من تفاعلي مع تجربة السودان وإعدام عبد الخالق محجوب، إلى تجربة اليمن ثم تفاعلي مع المقاومة الفلسطينية، وحول صداقاتي مع شعراء الأرض المحتلة وخاصة مع محمود درويش، والتي تعمقت إلى حد كبير في موسكو مع السفير الفلسطيني آنذاك رامي الشاعر الإنسان الوفي الرائع الذي تابع مسيرة أبيه في النضال لدعم القضية الفلسطينية العميد المثقف محمد الشاعر الذي نصحني بالسفر إلى موسكو بعد محاولة اغتيالي في مدرج جامعة دمشق، وكان له الفضل في كتابة قصيدة “انهض” ، ثم تفاعلي مع اتحاد الكتاب السوفييت، والعلاقة الجميلة التي نشأت مع رسول حمزاتوف وجينكيز أيتماتوف وحتى معايشتي لتفكك الاتحاد السوفييتي، وانطباعات عن غورباتشوف ويلتسن، ومن ثم بوتن الذي أنقذ روسيا من الانهيار، وفصل عن تنامي النازية الجديدة، وقد أتقنت الدكتورة يسرى بلالي إلى حد كبير معالجة كل هذه المواد والإشراف عليها بالتعاون مع المخرجة منال ين رجب لتحديد طبيعة الغرافيك ومع الفنان معاذ عيادي الذي أبدع في صورة الغلاف، ناهيك عن أنها كتبت مقدمة الكتاب بنفسها بعمق ودراية قلم إعلامي مميز، فإذا به تحفة حقيقية، كنت فيه مساهما أكثر من كوني مؤلفا، كل هذه المقدمات الإيجابية كان لا بد أن تنعش ذاكرتي من جهة وتحرضني أنا الذي عشت عمري محرضا، لذا أستطيع القول أن تونس أنعشتني وبدأت تأسرني حقا من خلال هذه المجموعة الرائعة التي تعيش فيها كل آمال فرقة سبارتاكوس، وطموحات أيمن أبو الشعر، وينفذونها عمليا على أرض الواقع، وحين ظهرت لديهما فكرة أن أزور تونس، وافقت على الفور، فقد شعرت بأنهما صادقين حتى أعماقهم، ومتلهفين حقا للقاء، أي أن مشاعرنا كانت متجاوبة تماما، وهزني حتى أعماقي أيضا أنني سأستعيد تلك العلاقة الحميمة مع الجماهير التقدمية، والمثقفين الثوريين الذين يؤمنون ويعملون من أجل غد أفضل…
أرسل الدكتور وليد والدكتورة يسرى بطاقة الطائرة، وحددنا موعد القدوم وساعته، ثم بت في طريقي إلى مطار موسكو… و … نتابع في الجزء الثاني كيف أشعلتني تونس ودّا، وتألقت في الروح بردا وسلاما…

الدكتور وليد ماجيري وزوجته الدكتورة يسرى بلالي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى