• تاريخ إسرائيل مليء بالاغتيالات غدرا منذ سبعينات القرن الفائت سواء عبر وسائل الاتصال، أو القصف الصاروخي كما حدث إبان اغتيال سمير قنطار
عملية موجعة
ما من شك بأن عملية تفجير أجهزة البيجر في لبنان كانت عملية موجعة، وهي ليست اختراقا أمنيا كبيرا كما يوصف عادة بقدر ما هي وسيلة ماكرة وجبانة وحقيرة، والاختراق الأمني عمليا مرتبط بأن مثل هذه الأجهزة لم تعد تستخدم في معظم البلدان حيث تقادم عهدها وبات دورها ضعيفا في التواصل مقارنة بالموبايلات الذكية والمتطورة، وبالتالي استغل “الشاباك” هذه الفجوة تحديدا انطلاقا من أن حزب الله لدواع أمنية لم يعتمد على تلك الهواتف الذكية التي تتيح في الوقت ذاته للخصوم التنصت وتحديد مواقع من يستخدم هذه الهواتف، فلجأ حزب الله لتوزيع أجهزة البيجر على عناصره والتي تكفي لإرسال الرسائل القصيرة واستقبالها، وتكون مفيدة حتى لتحديد موعد أو عملية أو استنفار، ولكن ما هي الحيثيات وكيف لُغِّمت هذه الأجهزة، ولماذا لم يتم فحصها جيدا قبل توزيعها على عناصر حزب الله خاصة أنها بهذه الكميات الكبيرة؟
تحت إشارة استفهام
من الواضح أن خبراء حزب الله قاموا بفحص الأجهزة قبل توزيعها، ولم يكتشفوا شيئا غير عادي فيها، إذ ليست هناك أية قطعة مشبوهة مضافة إلى الجهاز، ذاك أن المادة القابلة للانفجار الشديد كانت ممزوجة بالمادة الموجودة في جوف البطارية، وهي على الأرجح “آر دي إكس” شديدة الانفجار والتحطيم عبر الصدمة الهائلة التي تحدثها، أو “الهكسوجين” ، وبما أن هذه المادة مزجت مع مادة صنع البطارية، فإن اكتشافها كعبوة ناسفة كان شبه مستحيل.
ولكن من أين جاءت هذه الأجهزة وكيف لُغِّمت؟ هناك تقديرات متفاوتة لعل أشهرها احتمال أن تكون الشركة الأمريكية “متورولا” التي كانت تصنع هذه الأجهزة قد ساعدت في هذه العملية خاصة أنها وثيقة الصلة بإسرائيل ولديها مكتب دائم فيها، وحسب التحقيقات الأولية تمتد الشكوك بين تايوان في آسيا وهنغاريا في أوربا الشرقية، فقد أكد مؤسس شركة “غولد أبولو” التايوانية هسو تشينج كوانغ المصنعة لأجهزة الاتصالات أنها ليست مسؤولة عن تصنيع الأجهزة التي تم تفجيرها في لبنان، على الرغم من أن حزب الله طلب من هذه الشركة بالذات تزويده بخمسة آلاف جهاز بيجر، وهناك احتمال بأن يكون “الموساد” قد استطاع زرع المادة المتفجرة في بطاريات هذه الأجهزة قبل أن يتسلمها حزب الله ولكن أين وكيف؟ أسئلة تحتاج إلى إجابات عملية بعد تحقيقات جدية، فقد أعلن وزير الاتصالات والعلاقات الدولية الهنغاري زولتان كوفانتش أن الأجهزة التي تسلمها حزب الله لم تورد من هنغاريا، وأن الشركة المعنية كانت مجرد وسيط وهي شركة بيع وليست شركة تصنيع، في حين تقول شركة “غولد أبولو” التايوانية التي وضعت علامتها على تلك الأجهزة أن شركة “باك كونسلتينغ كيه إف تي” الهنغارية ومقرها بودابست هي المسؤولة عن التصنيع!!! فمن نصدق وكيف يمكن لشركة مختصة بالبيع أن تصنع؟ خاصة أن تحقيقا آخر قد فتح يتعلق بشركة “نورتا غلوبا” البلغارية ومقرها العاصمة صوفيا.
عملية العقرب وليس طروادة
يطيب لبعض الصحفيين الذين يتناولون عملية تفجير أجهزة البيجر في لبنان تشبيه العملية بحصان طروادة، حيث يختبئ الجند داخل الحصان الخشبي ويفتحون الباب بعد أن ينزلوا منه فيدخل جيش أغاممنون ويحتل طروادة، والأمر في عملية تفجير أجهزة البيجر لا تفضي إلى ما يشبه نتائج حصان طروادة ،لكنها سممت دون شك الأجواء، وهزت النفوس وأصابت الشعب بما يشبه الحمى التي تخلفها لدغة عقرب المؤلمة ولكن غير القاتلة، وخاصة لجسم ضخم منيع كحزب الله.
هذا أسلوب الدناءة التي اعتادت عليه إسرائيل، أسلوب الغدر واللدغ وليس المواجهة التي قد تحدث بين خصمين شجاعين كما في حرب طروادة، ولو عدنا إلى دروس ما تقوم به إسرائيل لوجدنا أن أساليب الغدر بما في ذلك تفجير وسائل الاتصالات متجذر لديها، ففي عام 1972 قامت إسرائيل عبر الموساد باغتيال القيادي في حركة فتح والسفير الأول لفلسطين محمود الهمشري في فرنسا حيث انتحل أحد عناصر الموساد شخصية صحفي إيطالي، وحدد موعدا للمقابلة في مكتب المنظمة في باريس حيث تسلل عملاء الموساد إلى المكتب ووضعوا عبوة ناسفة أسفل الطاولة الموجود عليها الهاتف يتم التحكم بها عن بعد وحين رن الهاتف ورفع الهمشري السماعة انفجرت ما أصابه بجراح بليغة أدت إلى وفاته بعد حين، وفي عام 1996 اغتالت إسرائيل عن طريق جهاز الأمن الداخلي “شين بيت” يحيى عبد اللطيف عياش المهندس الذي ساعد في تطوير القنابل الانتحارية ضد إسرائيل بوضع 50 غراما من المتفجرات في هاتف صديقه أسامة، وهو من طراز شركة “موتورولا ألفا” الأمريكية، وتم تفجيرها حين تلقى اتصالا من والده، وفي عام 2000 اغتالت إسرائيل الناشط في حركة فتح سامح عبد حسن الملاعبي عن طريق زرع عبوة ناسفة في هاتف محمول وفجرت في رام الله إبان رده على اتصال به فأصيب في رأسه إصابة قاتلة، هذا عدا عن عمليات الاغتيال الغادرة بزرع عبوات أو قنابل أماكن إقامة النشطاء المهمين والمسؤولين الفلسطينيين كما حدث في اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنية في طهران وتفاوتت التقديرات في أسلوب اغتياله بين عبوة ناسفة وقصف صاروخي ،حيث يتم اعتماد أخبار دقيقة من العملاء مسبقا بحيث يتم التأكد من وجوده في المكان المستهدف في التوقيت المحدد، وقد تستخدم حتى الغارات الجوية حيث قامت باغتيال عميد الأسرى العرب المحررين سمير قنطار في دمشق بقصف من طائرتين حربيتين إسرائيليتين بأربع صواريخ على البيت الذي كان يقيم فيه في جرمانا عام 2015 أيضا اعتمادا على معلومات أوصلها لهم هذه المرة أحد قادة الفصائل المعارضة السورية، كما قتل ستة من عناصر حزب الله اللبناني مع مسؤول عسكري إيراني في غارة على القنيطرة وسبق أن تم استهداف القائد العسكري في حزب الله عماد مغنية في دمشق عبر تفجير سيارة مفخخة في دمشق عام 2008، والقائمة تطول وكلها تؤكد أسلوب لدغة العقرب تلك الحشرة الصغيرة التي تلدغ دون أن تُرى، وحسب قصيدة قديمة لي حول مقتل الرئيس اليمني السابق عبد الفتاح إسماعيل أقول في رثائه حيث كان صديقا حميما لي في موسكو: ” يُردي السمُّ البطلَ فيهوي بطلا… أما العقربُ ميتا حياً يبقى حشرة”.