الفلسطيني وحقّ الحياة!
من جملة المواضيع الإشكالية التي يحاول الكثيرون تجنّب الخوض في غمارها، ابتعاداً منهم عن ما يمكن أن تثيره من التباس وسوء فهم، قد يسيء لهم، ويجرّ عليهم سيل من الاتهامات الجاهزة والأحكام المسبقة الصنع، وفق منطقهم المغلوط: “ابتعد عن الشرّ وغنّي له”.. تقف مصفوفة: “الفلسطيني، اللاجيء، الإنسان”. كأحد هذه المواضيع، ربما الفريدة، التي يخشى الكثيرون التعرّض لها، أو حتى الاقتراب منها!
تقوم هذه المصفوفة على أولوية تمسك الفلسطيني بفلسطينيته، هوية وانتماءً، حيثما حلّ وأينما ارتحل، باعتبار ذلك عنواناً له ومقياساً لوطنيته، بل ومعياراً لدرجة انتمائه لقضيته الوطنية، ودليلاً للحكم عليه وتصنيف مكان تموضعه. وقد ذهب بعض المغالين في هذا الأمر، لسلخ الفلسطيني عن محيطه العربي والإسلامي والأممي، وارتجال المواقف بمعزل عن حلقات هذا المحيط الثلاث، بل وانتزاع المواقف واحتكارها تحت يافطة “استقلالية القرار الوطني الفلسطيني”، وهو ما فتح الباب واسعاً لتنصل الآخرين من مسؤولياتهم تجاه القضية الوطنية الفلسطينية، بحجة “النزول عند رغبة الفلسطينيين”، واعتبار “أهل فلسطين أدرى بشعابها”، وصولاً لقول البعض للفلسطينيين: “حلّوا عنّا”، أو “اذهبوا أنتم وربكم فقاتلوا إنّا ها هنا قاعدون”. فيما دفع هذا المنطق البعض الآخر لفكّ ارتباطه بفلسطين والفلسطينيين، وذلك في أحسن الأحوال. وفوق هذا وذاك، ذهب البعض لتصوير الفلسطيني ككائن أسطوري في حكايات خرافية، أو ما يشبه “سوبرمان” و “رامبو” بحسب الخيال الهوليودي!
ثم تنتقل هذه المصفوفة إلى مزاوجة الفلسطيني باللاجيء، ولكون اللاجئين يشكّلون ما يقارب ثلثي الشعب الفلسطيني، فإنه ينسحب عليهم ما ورد بشأنه أعلاه، كما أنهم وبكونهم لاجئين أيضاً، وباعتبار قضية اللاجئين تحتل مكان الصدارة في القضية الفلسطينية، بل هي لبّ وقلب هذه القضية وفق مقررات الإجماع الوطني الفلسطيني. فإن البعض يذهب إلى ضرورة تمسك اللاجيء الفلسطيني بلجوئه، ويغالي البعض منهم حتى في حث اللاجيء على رفض النذر اليسير من مد يد المساعدة له، وهي مساعدة تندرج أصلاً ضمن حدود المسؤولية الدولية الثابتة والمشروعة عن نكبته ولجوئه، لدرجة أن البعض قد طالب بحرق الخيام وتمزيق “كرت الإعاشة”. في حين يجد البعض الآخر فرصة سانحة للتنصل من أية التزامات تجاه توفير الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة للاجيء الفلسطيني، ويسوّغ التناقض الوهمي ما بين تمسك اللاجيء بحقوقه الوطنية، وفي المقدمة منها حقه في العودة إلى ترابه الوطني (فلسطين)، وبين توفير تلك المقوّمات. فلا سماح له بالعمل، ولا حرية له في التنقل أو السفر، ولا خدمات له، بل ولا حياة له خارج مخيمات الصفيح التي تفتقر لأبسط أساسيات استمرار الحياة، والتي تضيق جدرانها عليه وعلى أسرته المتنامية باستمرار. وبذلك يكون اللاجيء الجيّد هو اللاجيء المهاجر بقوة الدفع نحو المنافي البعيدة، بحثاً عن الحياة، ثم عن جنسية أجنبية تسمح له بالتنقل ـ مع كل الاحترام والتقدير ـ بين العواصم العربية ذاتها!
وأخيراً، يأتي في ذيل هذه المصفوفة صفة “الإنسان”، لكنها صفة مشروطة، بل ومكبّلة بقيود لا متناهية، قد يطول كثيراً الحديث عن تفاصيلها. وباختصار شديد، يمكن القول بأن المغالاة في “فلسطنة” الفلسطيني عموماً، واللاجيء على وجه الخصوص، قد تؤدي ـ إن لم تكن أدت ـ إلى نزع “الأنسنة” عنه، وبكلّ ما يعنيه مثل هذا النزع من تجريده وحرمانه من أبسط أبجديات حقوقه الإنسانية، المتعارف والمنصوص عليها في كافة القوانين والأعراف الوضعية، وحتى في الكتب والرسالات السماوية، على اختلافها!!
صحيح أن الفلسطيني هو صاحب قضية فُرضت عليه فرضاً، وأنه معني بها قبل غيره، ثم مع غيره. وصحيح أن اللاجيء الفلسطيني، معني بالنضال لاسترداد حقوقه، وإنهاء لجوئه الذي طال كثيراً.. لكن ما هو صحيح أيضاً، أن نكبة الشعب الفلسطيني، ممثلة باللجوء والشتات وغيرهما، هي مسؤولية مشتركة ومتداخلة، وربما متبادلة هنا أو هناك. وهو ما اعترفت به كافة القرارات العربية والإسلامية والدولية، وما ترجمته على الورق حتى الآن، كافة قرارات الشرعية الدولية، ومقررات التكتلات الإقليمية والسياسية والاقتصادية المتنوعة.
وكي لا تطول وتشتد معاناة الشعب الفلسطيني بكافة مكوّناته، فإن مواؤمة هذه القرارات الورقية، مع الترجمة العملية الواقعية، أمر مطلوب بإلحاح، بالأمس قبل اليوم والغد، فلم يعد مقبولاً استمرار النفاق والإزدواجية تجاه الشعب والقضية الفلسطينية، كما أن المزايدة في هذا الجانب هي بالأفعال لا بالأقوال. فقد آن الأوان لتفكيك الجمود في هذه المصفوفة، والتعامل مع كلّ مفردة من مفرداتها، وكذلك مع الترتيب التراتبي لهذه المفردات باحتمالاته الستة بكل ما تحمله احتمالات الترتيب هذه من معانٍ واستحقاقات: فلسطيني لاجيء إنسان، فلسطيني إنسان لاجيء، لاجيء فلسطيني إنسان، لاجيء إنسان فلسطيني، إنسان فلسطيني لاجيء، إنسان لاجيء فلسطيني. وذلك بما يتوافق ويتناسب مع الوقائع المتباينة للوجود الفلسطيني، في هذه الساحة أو تلك، ومنح الأولوية ـ جلّ الأولوية ـ لحقّ الحياة أولاً وثانياً وربما عاشراً، فالفلسطيني أثبت على امتداد عقود طويلة خلت ـ وبما لا يدع مجالاً للشك أو التأويل ـ أنه يستحق الحياة!