ابحثوا عن الله في بطون الجياع – بقلم الدكتور اسماعيل الجنابي
عاشوا يتسكعون على ارصفة العواصم العربية والاوربية، يستجدون من اجهزة مخابراتها عظام الذل والمهانة؛ نتيجة انعدام حس المسؤولية لديهم، وعمالتهم لأعداء وطنهم وخسة افعالهم ومؤامراتهم، التي اثبتتها الايام بعد احتلال العراق واكدها ما جاء على لسان قادة الاحتلال، وخصوصا ماورد في مذكرات الحاكم المدني بريمر، وهو يصف هؤلاء الذين لم يهمهم سوى اخلاصهم للمنافع الشخصية، متجاهلين الخراب والدمار الذي حل في وطنهم .
مضى على احتلال العراق مايقرب العقدين من الزمن، سلبت فيها ارادته وسيادته وهدرت مقدراته، وسفكت دماء ابنائه ظلما وبهتانا، وتبددت ثرواته بين كروش ساسته التي اتخمت من شدة الفساد والخيانة، ولم تنضح من جباههم قطرة خجل او وجل، او حتى طرفة عين تشفع لهم امام رب العرش يوم ينادي المنادي: ” لمن الملك اليوم؟ ” فلا من مجيب ” .
لقد تحولت معاناة العراقيين المكلومين الى ورقة سياسية وانتخابية في قواميس اغلب السياسيين، حتى غدت مزاداً لشذاذ الافاق، ممن يتاجرون ببطون الجياع بالبضائع الفاسدة.
وبينما يتمتع اغلب ساسة اليوم بامتلاكهم ملايين الدولارات في البنوك اضافة للعقارات المتميزة في عواصم عربية وغربية، يعيش من هم احق بهذه الاموال في الكهوف والجبال والوديان، حفاة عراة بين تقلبات المناخ القاسية بثلوجها وامطارها ورياحها العاتية، دون مأوى او رغيف خبز، يسد صراخات اطفالهم لشدة جوعهم، الامر الذي دفع بعض ذويهم الى ان يتقاطروا امام موائد اللئام علَ الغيرة تناجي ضمائرهم الميتة، ليغدقوا عليهم فضلات ما يتساقط من افواههم الشرهة التي كانت يوما ما تلعق عظام موائد اسيادهم .
لا اريد ان ادخل في خطيئة هؤلاء السياسيين بهذا القول ولم اتجن عليهم بوصفي لهم، ولكن ما نلمسه من حقائق كشف المستور، الذي لم يكن يوما غائبا عن العراقيين الشرفاء، ممن ذاقوا مرارة الحياة وبؤسها وشقائها على يد اولئك الابطال الذين تصدروا قائمة سراق اوطانهم، وجوعوا ابناء شعوبهم لخستهم ودناءتهم وتمتعهم بأكل المال الحرام .
واورد هنا حادثتين سابقتين تنم عن اولئك الذين سادوا بعفة حكمهم، لنقارنهم بمدى تهاوي القيم عند هؤلاء السراق الاغنياء الجائعين، وكانت الاولى عندما وصل الخبر الى خليفة المسلمين ” عمر بن عبد العزيز ” رضي الله عنه ، ان بلاد المسلمين خلت من الفقراء نتيجة عدله في الحكم ، فأمر جنوده ان ينثروا القمحَ على رؤوسِ الجبال لكي لا يقال : جاعَ طيرٌ في بلاد المسلمين، والاخرى عندما دخل عروة بن محمد ” اليمن ” والياً عليها ، قال لهم: يأهل اليمن هذه راحلتي فان خرجت بأكثر منها فانا سارق.! هناك بون شاسع بين العفة والذلة ، فالأولى تمنح اصحابها المهابة والاكبار والكرامة والاقتدار ، والاخرى تجعل حاشيتها واربابها في المقام الاول من المهانة والوضاعة والاحتقار.
لقد اصبحنا في زمن سيئ اختلطت فيها اقدار الناس، فاصبح صغار القوم كبارها في التآمر والعمالة وأثرياؤها في المال ، وجهلاؤها امسوا علماءها ، والمنافقون اصبحوا سياسيين، والرشوة والفساد أضحت فنجان قهوة اللصوص، اما وجهاء القوم وعليتهم فاصبحوا غرباء الدار صابرين محتسبين الى الله عسى ان يبدل حالهم الى ماهو خير واصلاح، ومصداق كلامي لما ذهبت اليه في مقالتي: ” ان الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم ، والشجعان لا يذوقون الموت الا مرة واحدة ” .