صحافة ورأي

حول خلفيات وآفاق التعاون بين أنقرة ودمشق انطلاقا من زيارة الشرع لتركيا (الجزء الأول)

د. أيمن أبو الشعر

• يتساءل بعض المتابعين من السياسيين المخضرمين: هل ستكون العلاقة بين تركيا وسوريا ندية بين دولتين، أم بين الباب العالي وولاية تابعة له؟

استئناس تاريخي

عايشت سوريا حضارات ودول نوعية عبر آلاف السنين إلى الوقت المعاصر، ومن أهمها حضارة الكنعانيين والفينيقيين والآراميين، ومن ثم في المرحلة الإسلامية الخلافة الراشدية ثم الأموية، وتليها العباسية التي سقطت عام 1258 بغزو هولاكو لبغداد بعد تصدع الخلافة العباسية، وظهور الإمارات و الدويلات، رغم استمرارها في مصر حتى عام 1518 حين أنهى العثمانيون حكم المماليك، وانتقل مركز الخلافة من القاهرة إلى الآستانة، ولكن المثير أن الحديث الآن يكثر عن أن السلطات السورية الجديدة أحيت أو تسعى لإحياء المرحلة الأموية، لماذا تحديدا المرحلة الأموية لدرجة التغني بتلك المرحلة، رغم أن البعض يرى أن السلطات الجديدة في الواقع بدأت تحيي المرحلة العثمانية وليس الأموية.

ينتسب بنو أمية إلى أمية بن عبد الشمس من قبيلة قريش ،وعلى مبدأ خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام تبوأ الأمويون من الأسر الحجازية الخلافة منذ عام 41 هجرية إلى عام 132 هجرية، وتمتاز تلك الخلافة بقوتها ومنعتها واعتمادها على العرب، ووصلت أوج ذروتها أيام هشام بن عبد الملك حيث امتدت إلى الصين شرقا وحتى المغرب غربا، ووصلت مع طارق بن زياد حتى الأندلس في الغرب، لكن الإسلاميين السنة عموما ينبذون ويتبرون من مرحلة الخلافة العباسية التي كرست إلى حد ما سيطرة الشيعة، واتكأت عبر قرون على الفرس، ويتم حاليا التكني بالمرحلة الأموية على الأرجح انطلاقا من هذا المنطلق، في حين يتم عمليا إحياء المرحلة العثمانية على أرض الواقع العملي بغض النظر عن الأطروحات البراقة التي تبدو وكأن الاتجاه الحالي عقلاني وموضوعي، وبعيد عن أية تحالفات لها خصوصيتها، حتى الطائفية، ولكن ذلك مخالف للمنطق بل يمثل نقيضه، فكثير من الإسلاميين ينظر إلى تركيا على أنها استمرار للخلافة الإسلامية السنية، وليست احتلالا دام أربعة قرون، ومن خلال الوقائع العملية يفسر البعض تدمير تمثال أبو فراس الحمداني في حلب أنه تم لكونه شيعيا، وهذا مؤسف حقا. ويتساءل بعض المخضرمين العارفين بشؤون السياسة والتاريخ هل ستغدو العلاقة بين سوريا وتركيا واقعيا علاقة بين دولتين نديتين، أم علاقة امبراطورية بإمارة تابعة لها، أو علاقة الباب العالي بإحدى ولاياته، كما كان الأمر أيام قرون الحكم العثماني للعالم العربي عدا اليمن!

ارهاصات العروة الوثقى

ومع ذلك يتضح للمتابع أن التقارب إلى الحد الاستراتيجي بين دمشق وأنقرة هو تحصيل حاصل، فلو عدنا إلى ما قبل سقوط نظام بشار الأسد لوجدنا أن تعاونا نوعيا كان بين الجولاني وتنظيمه متعدد التسميات حسب المتغيرات الزمنية، التنظيم المتنامي في هيئة تحرير الشام التي تضم ‎أحرار الشام “1” و‎سرايا أهل الشام “2” و ‎أبو جابر الشيخ “3” ، و‎حركة نور الدين الزنكي، “4” تعاونا جديا‎ مع أنقرة لدرجة الحماية والتسليح، وتسهيل التوسع وقدوم “المجاهدين” من كل أنحاء العالم عبر تركيا تحديدا إلى سورية، ثم إتاحة الفرصة لسيطرته على معظم الفصائل المسلحة الأخرى بما في ذلك إخضاعها عبر قوة السلاح، ومن ثم المساعدة في تحسين صورته أمام المجتمع الدولي، والتأكيد على أنه تجاوز قناعاته حين كان يعمل مع القاعدة وحتى داعش والزرقاوي، ومن ثم التوطئة لقبوله وجها سياسيا محتملا ، وجها تكرس باسم أحمد الشرع، وذلك من خلال تحوله من منضوٍ تحت لواء داعش إلى مناهض لهذا التنظيم بل ومحارب له، وبالتالي كانت أنقرة قد مهدت له جميع السبل بما في ذلك لوجستيا وبالدعم العسكري والسلاح للسيطرة على دمشق، من هنا لا بد للجولاني باسمه الجديد أحمد الشرع أن يشكر تركيا الراعي الأول لمجمل مساره وحتى آفاقه.

عبر السعودية إلى تركيا

المعروف أن هناك صراعا يخفت أحيانا ويظهر للسطح أحيانا أخرى بين المملكة العربية السعودية وتركيا حول زعامة العالم الإسلامي السني بشكل خاص، ذاك أن السعودية تنطلق من أنها موئل ومركز المقدسات الإسلامية، في حين تنطلق تركيا من قوتها البشرية والعسكرية، وهذه الحساسية لن تزول أبدا على المستوى المنظور، ولكن يمكن السيطرة عليها عموما، ولهذا أيضا حرص الشرع على زيارة المملكة أولا، بل كأول بلد يزوره بعد السيطرة على مقاليد السلطة في دمشق، وهي خطوة إيحائية بالغة الدلالة بمعنى أن هناك مباركة من المملكة للسلطات الجديدة، وخاصة بعد زيارة أمير قطر تميم بن حمد لدمشق، وكل من الدوحة والرياض مركز مالي مأمول، وقد بدا تأثيرهما واضحا حتى بسيكولوجيا حيث ارتفعت قيمة الليرة السورية بعد هاتين الزيارتين إلى درجة محسوسة دون أن تكون هناك عوامل اقتصادية لهذا الارتفاع. كما أن هذين اللقاءين يمهدان لمشاركة قطر والسعودية في إعادة الإعمار لاحقا.

تمهيد أولي

سبقت الزيارة تصريحات عديدة تؤكد على خصوصية العلاقات بين السلطات الجديدة في سوريا والقيادة التركية، بل والشعب التركي عموما، خاصة مع تزايد الحديث عما قدمته تركيا لأكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري خلال فترة الأزمة، إلا أنهم لم يكونوا في الواقع عبئا على الاقتصاد التركي بل على العكس من ذلك ساهموا في انشاء آلاف المشاريع والشركات الصغيرة، واستثمار ما لا يقل عن عشرة مليارات دولار في الاقتصاد التركي، وبالتالي فمسألة رحيلهم نصل ذو حدين، ومن جهة ثانية هناك المناطق الحدودية الشاسعة التي احتلتها القوات التركية بحجة ضمان أمنها، والحدود التركية السورية تمتد 900 كيلومتر ، مما يفتح صفحات جديدة يرجح أن تكون في محور تفاهمات انقرة ودمشق، خاصة أن وفدا تركيا رفيع المستوى كان قد زار دمشق نهاية يناير كانون ثاني الفائت حيث زار إبراهيم كالين رئيس المخابرات التركية دمشق بعد أيام من الإطاحة بالأسد، وكان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أول وزير خارجية يزور دمشق آنذاك، كان ذلك تمهيدا أساسيا لزيارة الشرع إلى أنقرة.

“1” هيئة تحرير الشام جماعة سلفية تشكلت عام 2017 كانت تعرف باسم جيش السنة
“2” سرايا أهل الشام: تشكلت عام 2015 في ريف دمشق قرب الحدود اللبنانية
“3” التنظيم الذي يتبع لإبي جابر هاشم الشيخ في قيادة هيئة تحرير الشام
“4” الفصيل يتكنى بنور الدين زنكي وهو سلجوقي تركي يطلق عليه أيضا لقب الملك العادل، وقد تصدى في حينه للغزوات الصليبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى