
مستقبل القضية الكردية بعد رسالة عبد الله اوجلان لحزبه.. ما هو الخطأ المتكرر الذي تقع فيه الاحزاب الكردية وقادة دول المنطقة؟
د. سعد ناجي جواد
مرة أخرى يرفع قائد كردي الراية البيضاء ويطلب من أتباعه إلقاء السلاح و(الانخراط في العملية الديمقراطية). وبالتأكيد إن كلمات السيد عبد الله أوجلان، مع إيجابياتها، لا يمكن اعتبارها نابعة من إيمان حقيقي بالحل الديمقراطي، وهو الذي يقبع في السجن الانفرادي منذ عام 1999، وبعد أن اختطف في عملية مخابراتية ساهم فيها الموساد الاسرائيلي، ولأنه طرح حلاً سلمياً في مرات سابقة دون جدوى،(مرة في عام 1998 وآخرى في أيلول/سبتمبر 1999 بعد إلقاء القبض عليه)، حيث أعلن حزبه PPK آنذاك حل نفسه وانسحب إلى جبال قنديل في شمال العراق، وعندما لم يجد آذانا تركية صاغية عاود ممارسة نشاطاته المسلحة من هناك ولا يزال.
إن ما يحدث مع أكراد تركيا هو مسلسل متكرر حدث مع أكراد العراق وإيران والآن سوريا، وللأسف لم تظهر لحد الآن لا قيادات وطنية ولا قيادات كردية في الدول المذكورة أعلاه سعت أو تسعى حقا لإيجاد حل سلمي دائم للمعضلة الكردية. وظلت الحلول تسير وفق معادلة تتناسب عكسيا مع قوة وضعف كل طرف. فإذا ضعفت الحكومات المركزية تبدأ بتقديم التنازلات للحركات الكردية متحينة الفرص لكي تنقض عليها عندما تقوى، وكذلك الأمر مع الأحزاب والقيادات الكردية، فإذا ما وجدت أن المركز قد ضعف تبدأ بتصعيد مطالبها إلى سقوف لا يمكن أن تقبل بها أية دولة، واذا ما هُزِمت أو ضعفت تبدأ بتقديم التنازلات التي ترفضها الحكومات لاعتقادها أنها تستطيع أن تقضي على الحركة بالكامل. وهكذا يستمر مسلسل المواجهات، والتي تصاعدت بشكل كبير بعد أن دخلت على الخط أطرافا خارجية حاولت وتحاول ان تستغل ما يحدث لمصلحتها، وخاصة على الجانب الكردي.
ما قيل أعلاه يجب أن لا يُنسنا التأكيد على حقائق ثابتة ومهمة تقول أن الأكراد شعب أصيل وجد في المنطقة منذ آلاف السنين، وأنه شعب يمثل قومية تختلف عن القوميات التي تسيطر على الحكم في البلدان التي يتواجد فيها، ويرفض سياسات الصهر، وأنهم شعب انقسم ضد إرادته بعد الحرب العالمية الأولى، بل وقبل ذلك. ومع ذلك فإن أغلب قيادات هذا الشعب ساهمت بتعميق الانقسامات داخله، حتى جعلت منه سلعة لكل طرف يريد أن يستغله. وهذه قصة، بل مأساة طويلة تحتاج إلى بحث خاص بها.
لماذا القول أنه من الصعب اعتبار خطاب السيد عبد الله أوجلان نابع عن قناعة؟ الجواب بسيط جدا، فلو كانت الحكومة التركية جادة حقا في ايجاد حل سلمي للمشكلة الكردية في تركيا، وانها تحترم طموحات الأكراد المشروعة، فكان عليها اولا ان تُظهِر اوجلان بمظهر يليق به كقائد لأكبر واهم حزب كردي في تركيا، وفي بث مباشر وهو يقرأ رسالته إلى اتباعه معززا مكرما، وان تزيد على ذلك بان تعلن انها ستعترف بحزب الـ PPK، حال موافقته على الانخراط في العملية الديمقراطية، او ان تعلن عن اضافة وزير كردي من الحزب إلى الحكومة، وغير ذلك من الخطوات التي تطمئن الأكراد في تركيا على مستقبلهم في هذه الدولة.
من الواضح ان المعيار الذي ذُكِرَ أعلاه (التناسب العكسي) مازال سائدا، وانه يشمل الرئيس أردوغان نفسه، الذي شعر، بعد نجاحه في الاطاحة بنظام الرئيس بشار الاسد وضم سوريا إلى منطقة نفوذه، بانه اصبح في موقف قوي يجعله يفكر بجدية في افشال مؤامرة كبيرة تحاك ضده وضد حكمه، تقودها الولايات المتحدة وإسرائيل، تهدف إلى خلق دولة كردية داخل تركيا، وان أدواتها في ذلك احزاب كردية، أهمها حزب قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وبمساعدة قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي (البارتي). والحزبين الكرديين السوري والعراقي يتمتعان بعلاقات وثيقة مع، وحماية من الولايات المتحدة وإسرائيل. ولهذا فكما انه من الصعب تصور ان خطاب اوجلان نابع عن قناعة تامة بحل ديمقراطي، فان خطوات الرئيس اردوغان لا يمكن اعتبارها تنبع من نية صادقة لحل المشكلة الكردية في تركيا ديمقراطيا، بل يمكن تفسيرها على انها محاولة لاستخدام هذه القضية وسيلة لأهداف اخرى، وان هناك مؤشرات تقول ان مبدا القبول بدولة يكون فيها للأكراد حقوقا سياسية متساوية غير موجود في ذهنه ولا في ذهن الاحزاب التركية الاخرى المعارضة له، وهذه حقيقة ثبتت منذ انهيار الدولة العثمانية وصعود مصطفى كمال اتاتورك بعد الحرب العالمية الاولى، الذي شن أبشع الحروب على اكراد تركيا، ووضع اسس سياسة تتريك الأكراد (اللذين كان يطلق عليهم أتراك الحبال)، وحرص على محو كل ما يمت لهويتهم القومية بصلة (لغة وملبسا وحتى فولكلورا غنائيا).
من ناحية اخرى فإن سياسة قادة قسد، المشابهة لسياسة قادة الاحزاب الكردية العراقية (خاصة البارتي في أربيل واليكتي – الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية)، والمتمثلة بالاعتقاد بان الاعتماد على الأجنبي يمكن ان يحقق لهم ما يريدون، هو خطاءٌ تاريخي مكرر لم ينجم عنه سوى نكبات مكررة للشعب الكردي (حدثت في مهاباد ايران وفي كردستان العراق، ومازالت، وتحدث الان في سوريا، ومع حزب ال PPK). ومن يعود بذاكرته الى حوادث القرن الماضي يستطيع ان يتأكد من ذلك.
ان كل قيادات الاحزاب الكردية السابقة والحالية فشلت في استيعاب حقيقة ذهبية مفادها ان مصلحة الشعب الكردي في كل مكان تكمن في ضرورة تعاونهم مع الشعوب التي يعيشون بينها من اجل بناء أنظمة ديمقراطية حقيقية، وحتى تحين الفرصة المناسبة لإقامة دولة كردية تعيش في تآخي وسلام مع شعوب المنطقة. وان الاعتماد على الأجنبي الذي لا يضمر اي خير للأكراد خطيئة لا تغتفر، وان هناك من الحوادث التاريخية التي برهنت على غدر هذه الأطراف الخارجية بالأكراد ما يكفي لبناء إستراتيجية وطنية جديدة. فبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وإسرائيل كلها طرحت نفسها كأصدقاء للشعب الكردي ثم تخلت عنه وتركته لمصير مجهول، وكذلك فعلت الأنظمة المختلفة في المنطقة. وتبقى الحكومة التركية الان مطالبة بان تُظهِر ما يؤيد رغبتها الحقيقية في ايجاد حل ديمقراطي ودائم للمشكلة الكردية، وليس حلا آنياً ومن اجل مكاسب انتخابية. وحتى يصل الطرفان، حكومات المنطقة وقادة الاحزاب الكردية إلى هكذا قناعة ستبقى المعضلة الكردية مستمرة، وسيستمر معها نزيف الدم وضياع ارواح زكية من كل الأطراف.