رسالة إلى الأمين العام لحلف “الناتو”
مقال للكاتب والمحلل السياسي الروسي الاستاذرامي الشاعر نشر على موقع RT جاء فيه
صرح الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، عقب اجتماع وزراء حلف “الناتو” الأسبوع الماضي بأن الحلف يواجه “واقعا جديدا بالنسبة للأمن الأوروبي”.
وتابع أن ذلك الواقع الجديد يحتاج إلى إعادة تشغيل المنظومة الدفاعية الجماعية وأساليب على المدى الطويل، ما دفعه لتوجيه القيادة العسكرية بالشروع في وضع خطط دفاعية موسعة ضد روسيا، في إطار مراجعة استراتيجية الحلف على الأرض وفي الجو والبحر والفضاء وفي المجال السيبراني.
يدفعني ذلك لكتابة خطاب افتراضي للسيد ستولتنبرغ..
يتضح من عدوانية الخطاب الإعلامي والسياسي في أروقة الحلف، وما نراه ولا نرى سواه في وسائل إعلامكم التي تغطي العالم أجمع، وتنقل له وجهة نظر وحيدة، يغيب عنها أي ذكر للموقف الروسي، أنكم حصلتم على قسط لا بأس به من التعليم في معاهد العلوم العسكرية والسياسية التي ملأت قلوبكم وعقولكم بعقيدة واحدة راسخة هي “العداء لروسيا”، ووضعتم هدفا واضحا يتجسد في قراراتكم وإجراءاتكم وسلوككم هو تدمير روسيا.
لم يثنيكم كل ما حدث من متغيرات وأحداث دولية جسام، غيرت من وجه العالم خلال الثلاثين عاما الماضية، فمضيتم تستخدمون نفس التكتيك في التمويه، متسترين بتشغيل المنظومات “الدفاعية”، ووضع خطط “دفاعية” موسعة ضد روسيا، لكن الحقيقة أن ما تنشرونه هو منظومات هجومية وخطط موسعة ضد روسيا.
أثناء حكم الرئيس الأمريكي، جورج بوش، وفي العام 2003، تسربت معلومات من داخل البنتاغون حول مخططه العسكري ضد روسيا، والدور الذي يلعبه حلف “الناتو” ضمن هذا المخطط لمهاجمة روسيا. ومنذ ذلك الحين وروسيا تدرك أن كل توسع للحلف، وانضمام دول جديدة له بمثابة تعزيز لهذا المخطط، ويمثل تهديدا للأمن القومي الروسي، ما دفعها بطبيعة الحال أن تعزز بدورها إمكانياتها الدفاعية، وتبذل جهود دبلوماسية لإيجاد صيغ للتفاهم مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتحاول إقناعها بالعدول عن ذلك المخطط بكافة الطرق الدبلوماسية وبطريق الحوار وخلق أرضية مشتركة ومجالات للتعاون وأجواء دولية جديدة بعيدا عن أجواء الحرب الباردة.
لقد تفكك الاتحاد السوفيتي، ولم يعد هناك “حلف وارسو” يمكن أن يهدد أوروبا الغربية، وانضمت جميع الدول من “وارسو” إلى الاتحاد الأوروبي لتشكل أوروبا موحدة، كنا نظن أنها ستتكامل وتتعاون مع روسيا لفرض واقع جديد يجسد على الأرض واقع ما بعد الحرب الباردة، الذي يحقق لمواطني أوروبا الرخاء والأمن والاستقرار، حتى تساعد روسيا أوروبا، وتساعد أوروبا روسيا في تعاون مثمر وبناء لخدمة البشرية وتعزيز دور هيئة الأمم المتحدة.
إلا أن أمرا من ذلك لم يحدث، وتمترس كل طرف من الأطراف وراء أسلحته وإمكانياته الدفاعية/الهجومية، وأصبحنا نرى اليوم بما لا يدع مجالا للشك كل نواياكم الخبيثة تعرض على جميع الشاشات، وتطالب جهارا نهارا بـ “إسقاط النظام”، أو “التخلص من بوتين”، وتلك واقعيا ليست سوى إهانة بالغة وواضحة موجهة للأمة الروسية، التي انتخبت هذه الحكومة وهذا الرئيس في انتخابات ديمقراطية شفافة ونزيهة. ولكنكم تريدون ديمقراطية أخرى، وحرية ثانية، تسمح لكم بنزع الإرادة السياسية الروسية، وإخضاع روسيا لكم، من خلال عملاء ودخلاء وسياسيي المنفى الممولين من جانبكم.
إن روسيا تحترم اختيار الدول في الانضمام للأحلاف التي تدافع عن مصالحها الاستراتيجية وأمنها واستقرارها، لا غضاضة في ذلك على الإطلاق، طالما لم يكن ذلك على حساب المصالح الاستراتيجية الروسية وأمن واستقرار الدولة الروسية ورخاء الشعب الروسي. لذلك فعدم استيعابكم لذلك، وتوهمكم في لحظة فارقة من العام 2014 أن بإمكانكم السيطرة على القرم وسيفاستوبول بكل ما تحميه شبه الجزيرة، ويحمله الميناء من معان وتاريخ بالنسبة لروسيا وقبلها الاتحاد السوفيتي، لم يكن سوى ضحالة سياسية، واستهانة بالدولة الروسية وقيادتها وشعبها. لهذا كانت عودة شبه جزيرة القرم إلى حضن الدولة الروسية هي الرد الوحيد والمنطقي من الشعب الروسي على مغامراتكم ومهاتراتكم الخبيثة، التي كانت تستهدف التحضير لحصار روسيا، ووضع قواعد البحرية الأمريكية على ضفاف البحر الأسود، تحت علم أوكرانيا. تماما كما تعودت الدولة الأوكرانية خلال ثمان سنوات أن تتلقى تعليماتها من السفارة الأمريكية في كييف، وتنفذ السياسات الأمريكية وأوامر “الناتو” بحذافيرها، حتى ولو كان ذلك على حساب حياة مواطنيها كما نرى اليوم فيما يحدث على الأرض في أوكرانيا.
لقد صبرت روسيا طويلا وكثيرا وتحملت كل هجمات الحرب الاقتصادية والهجينة والإعلامية التي تهدف لتهيئة الأجواء داخل روسيا لاستقبال العملاء ورسل “الديمقراطية والحرية” الغربية، الذين سيأتون باستعمار مقنع يدمر الدولة الروسية من الداخل، ويتسبب في تقسيمها وتشرذمها ومحوها من الوجود حينما تحل ساعة الصفر.
إن طالبا متواضع التحصيل في أعوامه الأولى بأي من جامعات السياسة والاقتصاد الروسية أو حتى الغربية بإمكانه أن يرسم خريطة للتوازنات ويدرك أن شبه جزيرة القرم كان خطا أحمر شديد الخطورة ومصالح استراتيجية لا يمكن أن تقبل الدولة الروسية بضياعها، والسؤال الحقيقي الذي أود طرحه على وزراء دفاع دول حلف “الناتو”، وعلى السياسيين “المخضرمين” ممن ظنوا أن بإمكانهم قلب الطاولة وموازين القوى في القارة الأوروبية وإعادة هيكلة العلاقة مع روسيا بـ “ثورة ملونة” في 2014 على غرار “الربيع العربي”، الذي انقلب خريفا داميا بما اندلع من أحداث في سوريا وليبيا واليمن وغيرها. السؤال هو: كيف تصورتم أن تسمح روسيا لأساطيلكم بالسيطرة على البحر الأسود، الذي يمثل جزءا حيويا يقع ضمن دائرة المصالح الروسية الاستراتيجية بامتياز؟ هل يمكن أن يكون مسؤول رفيع على مستوى الوزراء أو أمين الحلف بهذه السذاجة؟ ألم تكن هناك أي بيانات أو معلومات أو دراسات استشارية تاريخية جغرافية سياسية اقتصادية من خبرائكم ومراكز أبحاثكم تشرح لكم أهمية ذلك الوريد الذي يتصل مباشرة بقلب الدولة الروسية؟
لقد تابعنا في روسيا، على مدار السنوات الثمان الماضية، فصول المسرحية “الديمقراطية” في أوكرانيا، وشاهدنا كيف يتم اختيار الرؤساء الأوكرانيين، وكيف يتم التعامل معهم، وكيف يتم تشريع القوانين، وكيف تقدم الاستشارات والتوجيهات والتعليمات والإملاءات، ونحن نعلم ذلك جيدا لما مررنا به في روسيا التسعينيات، التي لا تغيب عن ذاكرة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ويأملون ويحلمون بأن يعيدوا روسيا إلى تلك “الفترة الذهبية” بالنسبة لهم مرة أخرى. لقد كان بعض المستشارين في بعض المناصب الحكومية الروسية الهامة يتبعون أجهزة استخباراتية أجنبية، وهو ما صرح به مؤخرا الرئيس الروسي. هذا تحديدا هو ما كان عليه الوضع في أوكرانيا خلال السنوات الثمان الماضية.
ذلك هو ما دعا روسيا لتقديم مقترحاتها، ديسمبر الماضي، بشأن الضمانات الأمنية للولايات المتحدة الأمريكية ولحلف “الناتو”، لأنها تدرك أن الحل والربط بيد هؤلاء وليس بيد أوكرانيا منزوعة الإرادة السياسية، والتي اختارها “الناتو” لتكون رأس الحربة في صراعه مع روسيا.
لقد كان الرئيس الأوكراني ومن حوله يعلمون ذلك، وكان المتطرفون الأوكرانيون يعلمون ذلك تمام العلم، بل وكانوا في غاية الخضوع والإذعان، بل والسعادة والتفاني، في أداء دورهم الوضيع في الهجوم على مواطنيهم الذين يتحدثون اللغة الروسية، ويعيشون في كنف الثقافة الروسية شرقي البلاد في إقليم الدونباس (جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين). لقد قرر النظام غير الشرعي، الذي انقض على السلطة في أوكرانيا بانقلاب متكامل الأركان عام 2014، الانصياع للمخطط الأمريكي، ومخطط “الناتو”، ضاربا بعرض الحائط علاقات القربى والزمالة والصداقة والتاريخ المشترك والجغرافيا المشتبكة والمعقدة للدولتين الشقيقتين روسيا وأوكرانيا. ذهب النظام الأوكراني والقيادة الأوكرانية المختطفة من المتطرفين العنصريين والنازيين الجدد، مع سبق الإصرار والترصد، إلى العنف والقمع والقتل وحرق كل الطرق المؤدية إلى السلام والحوار مع الجمهوريتين المنفصلتين، وتصور في لحظة أن “الناتو” والولايات المتحدة الأمريكية، التي هرب مستشاروها إلى الغرب، ثم إلى دول مجاورة، سوف يقف إلى جانب النظام في كييف ليحارب كتفا بكتف في صفوف الجيش الأوكراني.
لم يتعلم زيلينسكي من زميله ساكاشفيلي من جورجيا في العام 2008، والذي حفر نفس الحفرة لنفسه آنذاك، ولم ينقذه “الناتو”. لكن هذه المرة الحفرة أعمق، والخسارة أكبر بكثير، وبعيدا عن الخسارة في السلاح والعتاد، إلا أن الخسارة الأكبر على الإطلاق هو ذلك الشرخ والكراهية التي تترسخ يوما بعد يوم من القتال بين الأخوة في الدم.
لقد قررت روسيا الشروع في عمليتها العسكرية الخاصة لحماية الدونباس بعد صبر طويل وتحضير وجاهزية لأي تطورات، وأهداف العملية واضحة وضوح الشمس أعلنتها وتعلنها روسيا كل يوم: نزع سلاح أوكرانيا (بعد أن بدأت تمثل تهديدا وجوديا لروسيا برغبتها في امتلاك السلاح النووي)، اجتثاث النازية (التي تهدد المواطنين من أصول روسية أو ذوي الثقافة الروسية في الداخل الأوكراني)، ضمان عدم انضمام أوكرانيا لحلف “الناتو”.
هدف العملية هو حماية الأمن القومي للدول الثلاث: روسيا وبيلاروس وأوكرانيا، بل إن هدف العملية هو حماية أمن أوروبا من مغبة صراع أمريكي روسي بيد أوكرانية طائشة. وليعلم الجميع أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لم يهدد باستخدام السلاح النووي، وإنما أعطى تعليماته لكي يكون على أهبة الاستعداد، وهي رسالة واضحة لدول “الناتو”، التي لم تستوعب دروس التاريخ والجغرافيا، وأقدمت على دعم الانقلاب الأوكراني في 2014، وتمادت في التدريبات والمناورات وحرضت الداخل الأوكراني الذي أصبح يستقوي بها ويهاجم الضعفاء في دونيتسك ولوغانسك، ظنا منه أن كل ذلك سوف يمضي دون تدخل روسي.
روسيا لا ترغب في الحرب، ولا تريد أن تمتد العملية العسكرية خارج أوكرانيا، لكنها قادرة ومستعدة لكل الاحتمالات، حال استفحلت مشكلات الاستيعاب وعدم الفهم والإدراك وحتى الحماقة والغباء لدى “الناتو”.
لقد صرح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مؤخرا بأن أوروبا لم تعد تدافع عن استقلالها أمام الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح أمنها بالفعل مهددا، حال استمرارها في الانصياع والخضوع للإملاءات الأمريكية، والسير قدما في المخطط العدائي لروسيا.
لقد بدأت العملية العسكرية الخاصة قبل أيام معدودة من توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا، تسمح بفتح جسر جوي أمريكي-أوكراني، لتنقل الولايات المتحدة الأمريكية عبره 200 ألف جندي أمريكي بمعداتهم ومنظومات صاروخية أمريكية وطائرات تستقبلها جميعا البنية التحتية الهندسية الأوكرانية من مطارات وأبنية تم تجهيزها لاستقبال الجيش الأمريكي. كل ذلك دمرته القوات المسلحة الروسية خلال الـ 48 ساعة الأولى من بداية العملية العسكرية الخاصة.
كانت اتفاقية الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا، ثم تثبيت مواقع الجيش الأمريكي على الأراضي الأوكرانية هي مقدمة منطقية و”شرعية” للإعلان عن عضوية أوكرانيا في حلف “الناتو” وبالطبع قبولها في الاتحاد الأوروبي، ووضع روسيا أمام واقع جديد يتمثل في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، والخضوع لكل الإملاءات الأمريكية والغربية، والتهديد باستخدام السلاح النووي، بعد نقل 150 رأسا نوويا أمريكيا من ألمانيا إلى أوكرانيا، تستطيع أن تصل إلى موسكو في عدة دقائق.
أتمنى من الأمين العام لحلف “الناتو”، ينس ستولتنبرغ، ومن السادة وزراء الدفاع في الحلف أن يفكروا بجدية وحكمة في مستقبل بلادهم وأمن شعوبهم واستقرارهم ورخائهم، وأن يدركوا أن ضمان الأمن والاستقرار في أوروبا لا يمكن أن يتحقق دون الاتفاق مع روسيا، وضمان أمنها، الذي يتلخص في عدم تمدد “الناتو” شرقا.