دوليصحافة ورأي

إحراق الناس أحياء في مدينة أوديسا 2 مايو لا يمكن أن ينسى

بقلم د. أيمن أبو الشعر

• جريمة كبرى في وضح النهار وأمام أعين الجميع تُنسب إلى مجهول، أو أن المعارضين لكييف أحرقوا المبنى الذي التجأوا إليه بأنفسهم
• سيارات الإطفاء تأخرت قصدا والشرطة اعتقلت الذين اختبأوا في المبنى والمصابين ولم تعتقل أحدا من المهاجمين

التضليل
ما زالت الدعاية الغربية رغم مرور عشرة أعوام على الكارثة الإنسانية في مدينة أوديسا تحاول التستر على المجرمين النازيين، انطلاقا من الفعل المبني للمجهول ” الحقير” الذي سنضطر للتعامل معه بين حين وآخر.
فمعظم وسائل الإعلام الغربية التي تدعي التمسك بحرية الرأي والديمقراطية وحقوق الإنسان تسعى لرسم الجلاد بصورة الضحية، والضحايا كمجرمين مذنبين، حتى في نقل بعض حيثيات أحداث حرق مبنى نقابة العمال والناس الذين فيه أحياء، وتدَّعي مرة أن الذين لاذوا بمبنى نقابة العمال مسلحون إرهابيون، وأحيانا تقول أنهم قناصة، والغريب أن المشاهد المصورة حتى من وسائل الإعلام الغربية توضح بعض لقطاتها كيف كان يطلق النار على النوافذ من الذين يحاصرون المبنى، وفي أحسن الأحوال تقوم بإدانة العنف بشكل عام، لكنها تنسبه إلى مجهول، كأن تقول أن النيران اشتعلت في مبنى نقابة العمال، ومات الكثيرون اختناقا أو احتراقا، أو نتيجة رمي أنفسهم من النوافذ… النار اشتعلت، هكذا وحدها، حتى يخال المرء أنهم سيحوِّلون هذا المكان إلى مزار مُقدَّس يولد النار فيه من تلقاء نفسه، كالنار التي تنبثق في كنيسة القيامة في القدس، ويعتبرها المسيحيون الأرثوذكس معجزة حقيقية تستمر منذ قرون. كما أنهم يتحدثون عن العنف وكأنما هناك طرفان متساويان في العدد والعدة اشتبكا ومارسا العنف، وليس عن مجزرة حقيقية، قام بها النازيون الجدد ودون حياء أمام الكاميرات، وتبدو الأمور في الإعلام الأوكراني فاضحة بشكل غير معقول فهي لا تنسب الحريق إلى مجهول، بل تقول أن الذين التجأوا إلى المبنى ليختبئوا من المهاجمين هم الذين أشعلوا النار في المبنى، أي هم الذين أحرقوا أنفسهم، بل وقتلوا أنفسهم كذلك، ناهيك عن صياغة الخبر لجذب التعاطف من خلال الصفات التي لها تأثيرها النفسي على المتلقي كمفارقة ببين كلمات من مثل “انفصاليون أو وطنيون” بحيث يذكر أن “المواجهات” كانت بين الانفصاليين الموالين لموسكو والوطنيين الأوكرانيين الذين يؤيدون “الحكومة الشرعية” !!!وسنرصد هذه المشاهد بعد قليل.

استنهاض الذاكرة
بدأت الأمور عمليا بمؤامرة رخيصة ساهم فيها للأسف قادة دول أوربية كبرى هي ألمانيا وفرنسا وبولونيا، حيث اعتبر قادتها أنفسهم ضامنين للاتفاق بين الرئيس يانوكوفيتش والمعارضة الأوكرانية، وتم الاتفاق في جلسة صعبة استمرت تسع ساعات، وأقر أخيرا عودة العمل بدستور عام 2004 الذي ينص على إقامة نظام رئاسي برلماني، وتم الاتفاق على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وكان الهدف الرئيسي هو تحديد صلاحيات الرئيس، وبدا للوهلة الأولى أن الأمور ستسير نحو تطبيع العلاقات خاصة أن الرئيس يانوكوفيتش قدَّم تنازلاتٍ جديةً، إلّا أنَّ المعارضة قلبت ظهر المِجَن قبل أن يجف حبر التوقيع على الاتفاقية، وبدأت باحتلال المؤسسات في العاصمة كييف مما أرعب الرئيس الأوكراني واضطره للهروب، واستكملت المعارضة السيطرة على مؤسسات الدولة، وأعلنت إعفاء الرئيس من مهامه في نفس اليوم ما يؤكد أن البيان كان جاهزا حتى قبل الاتفاق، وتبين أن توقيع الدول الضامنة فرنسا وألمانيا وبولونيا كان أيضا مجرد حبر على ورق، والواضح أن واشنطن هي التي طلبت إفشال الاتفاق باعتبار أن الأمور جاهزة للسيطرة فلماذا اعتماد الحلول الوسط، كان ذلك في 22 شباط – فبراير عام 2014.

انتفاضة شرق وجنوب أوكرانيا
كان من البديهي أن ينتفض سكان شرقي وجنوب أوكرانيا مباشرة بعد إسقاط الرئيس المنتخب ورميِ الاتفاق معه في سلة المهملات، خاصة بعد أحداث ميدان كييف التي كانت تُنقل على شاشات التلفاز، وقد بدت قوات الأمن التابعة للرئاسة عبارة عن دريئة تتلقى الضربات، وتهان وترمى بالزجاجات الحارقة، فكان طبيعيا أن يُقدِّر السكان في الشرق والجنوب، ومعظمهم من الروس أيَّ مصير ينتظرهم، فقاموا بانتفاضة احترازية سيطروا فيها على مقاليد الأمور في دونباس وشبه جزيرة القرم، وجرت مظاهرات سلمية في مدينة أوديسا، حيث قام الرافضون للانقلاب بإنشاء مخيم صغير في ساحة “كوليكوفو” قرب مبنى اتحاد النقابات العمالية، وذلك للاحتجاج ورفض السلطات الجديدة التي فرضت نفسها ضمن تقديرهم على الأقل، وأقاموا هذا المخيم الذي شارك فيه قرابة 350 معارض للسلطات الجديدة غير المنتخبة، ومخيم الاحتجاج هو عادة أقرب ما يكون لمعسكر استجمام مع رفع بعض اليافطات وترداد بعض الهتافات بين حين وآخر، وليس مخيم حربي مسلح ومستعد للقتل كما كان الأمر في كييف، وقررت السلطات التي شعرت بحلاوة السيطرة على السلطة بتأييد من الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت في هذا الوقت بالذات كانت تتصل بيانكوفيتش وتطلب منه أحيانا باسم حرية التعبير وأحيانا بالتهديد بأن لا يقوم بقمع مظاهرات المعارضة، مما دفعه لمنع عناصر الأمن من قمع المتظاهرين، فقام المتظاهرون بهذا الدور، وأذلوا قوات الأمن بشكل مؤسف.

مسيرة بالهراوات نحو مخيم المعتصمين
الزمن ليس بعيدا جدا، ولا يحتاج إلى اعتصار الذاكرة، عدا عن أن المَشاهد كانت من القسوة بحيث لا تمحى بسهولة من الذاكرة، وقد يبدو الحديث عن بعض البواعث المُحرِّضة نوعا من الفاتنازيا التي لا تصدق حيث ساهم مشجعو كرة القدم في مجزرة أوديسا بشكل مباشر… جرت مسيرة من مشجعي كرة القدم الأوكرانيين بعد مباراة بين فريق ” تشورنوموريتس” وفريق “ميتاليست” ، وكان المشاركون في المسيرة متوقدون حقدا على الرافضين للنظام الجديد في كييف، وحسب بعض المعلومات تم إرسال المئات من بعض المدن الأوكرانية بمساهمة أجهزة الأمن الجديدة بحجة تشجيع المباراة، لكن الهدف الرئيسي هو قمع المخيم في ساحة “كوليكوفو”، وما زالت تتراءى أمامي مسيرتهم الصاخبة، وهتافاتهم المهددة وتوجههم في شوارع أوديسا نحو ذاك المخيم!!! ما علاقة مشجعي كرة القدم بمخيم وليكن معارضا؟ وأذكر تماما وصولهم وهجومهم على المخيم الذي بدا كلقمة سائغة، مع مفارقة القوى حتى أن الموجودين في المخيم لم يستطيعوا أساسا أن يُبدو أية مقاومة، فقد قام المتظاهرون المؤيدون للسلطة الجديدة الذين يفوقونهم عددا بإحراق المخيم خلال دقائق، واعتدوا بالضرب المبرح على المعتصمين الذين لم يكن أمامهم سوى الهرب واللجوء إلى مبنى نقابات العمال، وكان بعضهم ينزف أو يعرج أو في حالة متهالكة، وكان العالم كله يشاهد ما يجري على الشاشات التلفزيونية بحيث يبدو الإعلام الغربي سافلا بالفعل وهو يُحرِّف الحقائق إلى النقيض، فقد حاصر المؤيدون لكييف المبنى وراحوا يرشقونه بزجاجات مولوتوف الحارقة، عشرات الزجاجات الحارقة إلى أن شبت النيران في المبنى، نيران حاقدة حقيرة أشعلها مجرمون نازيون، وليست أبدا كنار كنيسة القيامة، وكان واضحا بشكل جلي كيف أطلق البعض من مسدساتهم النار على الذين التجأوا للمبنى، وكل ذلك مُصَّور وعرض على الشاشات في مختلف بلدان العالم، بل وحين حوصر الناس داخل المبنى بالنار والدخان قذف البعض بأنفسهم من النوافذ بعد أن بدأت النار تطالهم… كيف تتخيلون ماذا جرى معهم؟ الذين سقطوا وتهشمت أضلاعهم كان النازيون الجدد ينتظرونهم ليوسعوهم ضربا وقد مات الكثير منهم، عموما لا أقول مات بل قتل في مبنى نقابات العمال 48 شخصا أعزل كل ذنبهم أنهم لم يؤيدوا الانقلاب في كييف.
هناك أخيرا أمر ساطع لا يحتاج إلى تحليل لقد استمرت أحداث الهجوم على المخيم وحرقه ثم الهجوم على المبنى ومحاصرته وحرقة وقتا غير قصير يقدره البعض بأكثر من ساعة، وفي مثل هذه الحالات تقوم الأجهزة الأمنية عادة بالوصول إلى مكان الحادث خلال دقائق معدودات بما في ذلك سيارات الإطفاء والإسعاف، لكنها كانت قد تلقت الأوامر بالمكوث في أماكنها حتى ي\تأتي النجدة بعد أن يكون “سبق السيف العذل”، وقد تم اعتقال المختبئين والمصابين لا المهاجمين.
وتذكرني أحداث أوديسا وتناول الإعلام الغربي لها بقصة “طلقتان في الرأس ” من مجموعتي القصصية اعترافات عاشق، تتحدث القصة القصيرة هذه عن إنسان اغتالته سلطات البلد المعني، وأثار مقتله الرأي العام، فجرت محاكمة مدهشة تشابه مجرياتُها في السجال بين الدفاع والنيابة العامة ما جرى في أوديسا ولكن بشكل أوسع طبعا، حيث تؤكد النيابة العامة بأنه مات منتحرا، فيقول الدفاع ولكنه مصاب بطلقتين في رأسه فيجيبه ممثل النيابة العامة: نعم الطلقة الأولى كانت لأنه عزم على الانتحار، والطلقة الثانية لكي يتأكد من أنه انتحر فعلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى