صحافة ورأي

عذر أقبح من ذنب

بقلم د. أيمن أبو الشعر

• الدعم المطلق لإسرائيل يقبع في جينات المسؤولين الأمريكيين، والقضاء على حماس هدف لواشنطن كما هو هدف لإسرائيل
• رئيس الأركان الأمريكي السابق يطالب بعدم إدانة إسرائيل على جرائم الحرب متعللا بأن أمريكا نفسها قتلت الكثيرين في العراق وسوريا!

ينتشر في أوساطنا الشعبية مثل شائع يقول: “عذر أقبح من ذنب” وتنسب قصته شعبيا إلى أبي نواس وهارون الرشيد الذي طلب من أبي نواس أن يحضر له مثالا على هذا المثل “عذر أقبح من ذنب” وإلا فسيكون عقابه شديدا، حار أبو نواس وبعد أيام حين قرب موعد انتهاء المهلة جاء إلى الخليفة وكان واقفا ينظر من النافذة فمد يده إلى مؤخرة هارون الرشيد فاستشاط الخليفة غضبا، فقال له أبو نواس عذرا يا مولاي ظننتك السيدة “زبيدة” فمد الخليفة يده إلى سيفه وقال: أيمكن أن تفعل هذا مع زوجتي؟ عندها قال له أبو نواس ألم تطلب يا مولاي عذرا أٌقبح من ذنب!

أكثر حقارة ونذالة
رغم طرافة مفارقة قصة هذا المثل إلا أن صنوها في التطبيق العملي على السياسة الأمريكية ليست طريفة، بل لا تحمل سوى الشناعة والحقارة والنذالة، وإليكم القصة التي تبدو فيها قصة أبي نواس بسيطة وعادية مقارنة بالنذالة الأمريكية، ودونما مفارقة أي أنها واقع وليس تمثيل، بل تعبير عن موقف حقيقي:
مارك ميلي هو رئيس الأركان الأمريكي السابق، وهو يبدو هنا كمحام يدافع عن إسرائيل ويطلب عدم إدانتها ولا حتى انتقادها أو تأنيبها، لممارستها الإبادة الجماعية في غزة، فقد هاله مؤخرا أن الإدارة الأمريكية اتخذت قرارا بتأجيل شحنة ذخائر فتاكة لإسرائيل كي لا تستمر في استخدامها لقصف غزة لأن القوات الإسرائيلية تمادت كثيرا في ذبح الشعب الفلسطيني حتى باتت أمريكا التي تساعدها محرجة أمام الرأي العام وشعبها نفسه، فجرائم إسرائيل أصبحت فاضحة ساطعة، ولم يعد بالإمكان الدفاع عنها، فكيف يمكن التعبير عن التعاطف مع إسرائيل في محنتها القاسية وهي “أن الفلسطينيين يصرخون عند ذبحهم وأصواتهم تصل إلى أسماع العالم”، لذا ابتكر أسلوبا آخر أسلوبا رهيبا فعلا على مبدأ: ” لا تنه عن شيء وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم”…

المنطق الأمريكي نحن مجرمون ولا يجوز أن نحاسب إسرائيل المجرمة
وهكذا تحديدا حل رئيس الأركان الأمريكي السابق الأمر فأعلن أثناء زيارته لمعرض للذكاء الاصطناعي في واشنطن، وهذا أيضا أمر مثير فالمناسبة ليست سياسية ولا مؤتمر صحفي حول ما يجري في غزة بل هي زيارة لمعرض تقني لكنه الهاجس كما يبدو، فقد أعلن ميلي أنه: “لا يجوز أن نتبرأ جميعا مما تفعله إسرائيل، وأنا أشعر بالفزع تجاه موت الأبرياء في غزة، لكن لا ينبغي لنا ان ننسى أننا نحن – الولايات المتحدة- قد قتلنا الكثير من الأبرياء في الموصل في العراق وفي الرقة السورية”…
وكتبرير ساطع لآلة القتل الإسرائيلية يأتي الاعتراف حتى بالأرقام يقول رئيس الأركان الأمريكي السابق: ” لقد قتلت الولايات المتحدة 12 ألف مدني فرنسي بريء، ونحن في الذكرى الثمانين للنورماندي “1” ، كما دمرت الولايات المتحدة 69 مدينة يابانية عدا عن هيروشيما وناغازاكي” ، ويتابع: ” لقد ذبحنا أعدادا هائلة من الناس الأبرياء الذين لا علاقة لهم بحكوماتهم ذبحنا الرجال والنساء والأطفال”، ويتخذ من هذه الاعترافات تبريرا مباشر لما تفعله إسرائيل بمعنى هي مجرمة ونحن الأمريكيين أكثر إجراما، فلماذا نحاسبها ونؤجل شحنة القذائف الثقيلة الفتاكة، ثم يعبر عن موقفه باختصار : ” الحرب أمر فظيع، ولكن لا بد أن يكون هناك هدف سياسي، وبالتالي يجب تحقيقه بسرعة وبأقل تكلفة”.
أليس العذر هنا أقبح وأحقر ألف مرة، لو ترجمنا هذه التصريحات إلى لغة واقعية انطلاقا من كونها تعليقا على محاولة الإدارة الأمريكية تأنيب إسرائيل ليس إلا لتبين لنا مدى رهابة هذا الموقف الذي يعني باختصار وبساطة: “نحن مجرمون وقتلة فعلينا أن نقدر ظروف إسرائيل المجرمة القاتلة بدل أن نعاقبها!

حقيقة الموقف الأمريكي
ويطرح السؤال نفسه هل يعقل أن تعاقب الولايات المتحدة إسرائيل وهي تابعة لإسرائيل لا العكس؟
لننظر في هذه الحيثيات الصغيرة المعبرة وانتبهوا إلى الأرقام والصياغة:
الرئيس بايدن يعترف بأن إسرائيل استخدمت القنابل الأمريكية التي يبلغ وزنها 2000 رطل أي قرابة الطن، وقتلت مدنيين في غزة حيث قصفت بها الأحياء السكنية، ولهذا سيؤجل إرسال بعض شحنات الأسلحة الأمريكية إن مضت إسرائيل قدما في رفح بغزو بري كبير… حسنا وماذا إن استخدمت إسرائيل قنابل أقل وزنا من 2000، ولم تقم باقتحام كبير بل على مراحل؟ أو تابعت قصف المدينة دون افتحامها، نذكِّر هنا بأن واشنطن قدمت لإسرائيل علنا بدائل كي تتمكن من القضاء على حماس دون اقتحام رفح بحيث تتمكن تل أبيب من مطاردة ما تبقى من حماس في غزة حسب التعبير الأمريكي في إطار عمليات محدودة، بمعنى قتل الناس بهدوء ودون ضجيج وعلى دفعات ، فمقاتلو حماس ليسوا واقفين كدريئة كي تصطادهم القوات الإسرائيلية وفق المقترح الأمريكي، بل هم جزء من هذا الشعب الفلسطيني، ويعيشون في حارات رفح، ثم لننتبه إلى هذا التمازج أو التوحد في قول كيربي أن عملية رفح لن تحقق هدف الولايات المتحدة وإسرائيل في إلحاق الهزيمة بحركة حماس الفلسطينية، إنه إذن هدف واحد لكليهما.

وهل جافى بايدن مصالح إسرائيل أو أمنها؟ وهو بلسانه يقول: “نحن لا نبتعد عن أمن إسرائيل بل عن قدرتها في شن حرب على تلك المناطق، مفهوم أليس كذلك؟ حرب يعني عمليات تدميرية واسعة أما المقترح الأمريكي فهو عمليات صغيرة على مراحل لا تحدث ضجة دولية، عدا عن أن الاقتحام سيخلق إشكالا مع مصر نتيجة اضطرار مئات الآلاف إلى اختراق الحدود نحو مصر، حتى أن بايدن قارن مخاطر التورط في غزة بالمخاطر التي مرت بها القوات الأمريكية في أفغانستان وكذلك في العراق معترفا بأنه ليس من المنطقي التفكير بأن العراق يمتلك أسلحة نووية. اعتراف مذهل بعد فوات الأوان أليس كذلك؟
وماذا، هل الولايات المتحدة تخشى فعلا على الشعب الفلسطيني من القتل والتدمير في رفح؟ وهل تريد معاقبة نتن ياهو فعلا وبالتالي أجلت شحنة من الأسلحة الفتاكة وليس جميع الشحنات والمساعدات العسكرية؟ فقد أعلنت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض كارين جان بيير بوضوح أن الولايات المتحدة أوقفت شحن دفعة واحدة فقط من الذخيرة لإسرائيل وبشكل مؤقا، ولن يكون هناك وقف الم لإمدادات إسرائيل بالقذائف التي تحتاجها!

الكلب لا يعض ذَنَبه
ويكفي كي ندرك مدى خطل هذا التصور أن نتذكّر ماذا كان موقف الولايات المتحدة تجاه احتمال محاسبة المحكمة الدولية لنتن ياهو والمسؤولين الإسرائيليين على الجرائم التي ارتكبوها في غزة، حيث أعلن مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي في سابقة خطيرة أنه إذا أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق نتن ياهو فسيكون إجراؤها خطيرا يجب الرد عليه، وذلك بقلب الطاولة عليهم وفرض عقوبات على المحكمة الدولية ذاتها!!! تخيلوا أمريكا مستعدة لقلب الطاولة وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية وفرض عقوبات عليها إن هي تجرأت وأصدرت مذكرة اعتقال بحق نتن ياهو، فكيف يمكن أن تقوم واشنطن نفسها بمعاقبة إسرائيل، حجب شحنة الأسلحة الفتاكة هو مجرد مسرحية لذر الرماد في العيون عدا عن كونه إجراء مؤقت.

وصل الأمر إلى أن هدد أعضاء في الكونغرس الأمريكي محكمة الجنايات الدولية باتخاذ إجراءات انتقامية تجاه المحكمة إن فعلت ذلك، ما دفع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان لإصدار بيان غير عادي حذر فيه من تخويف المحكمة أو التأثير على عملها واستقلالها واصفا هذه التهديدات بأنها جريمة ضد إقامة العدل بموجب المادة 70 من نظام روما الرئيسي. أختم بمثالين شعبيين الأول يؤكد أن التبني الكامل لمواقف إسرائيل والدفاع عنها هو أمر محسوم حتى في جينات المسؤولين الأمريكيين، ولا يمكن تعديله أو إصلاحه فذَنَب الكلب أعوج وسيبقى أعوج كما يقول المثل الشعبي، ناهيك عن مثل شعبي آخر أكثر التصاقا بالموقف الأمريكي في هذه الحالة وهو: ” الكلب لا يعض ذَنَبه”!

1- النورماندي اسم المنطقة التي أجرى الحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية فيها أكبر عملية إنزال في التاريخ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى