كيف استعملت الذاكرة كأداة للسلطة السياسية “رؤية أنثروبولوجية”
إن السلطة السياسية تحديداً بحاجة مُلحة إلى شرعية لوجودها وهذا ما يطلق عليه مصطلح “الجانب الاستذكاري الموجه إلى الماضي”، من جهة أخرى فإن التحالف بين الذاكرة والسلطة السياسية له بعد مستقبلي أيضاً، فإن الحكام لا يغتصبون الماضي فحسب، وإنما يغتصبون المستقبل أيضا، فهم يريدون أن يتذكرهم الآخرون، لذلك يُشيدون لأنفسهم في أعمالهم أنصاباً وتماثيل، ويسعون إلى جعل أعمالهم مادة ترويها الأجيال، وتتغنى بها وتُخلدها في آثار وتماثيل، أو على الأقل توثقها في الأرشيف المحفوظ، فالسلطة تبحث عن الشرعية لنفسها بالإتجاه نحو الماضي، وتبحث أيضا عن الخلود بالإتجاه نحو المُستقبل فهذا الأسلوب مُتبع في شتى أشكال السلطة مُستعينة بالذاكرة الحضارية، أي أن “السلطة السياسية” تُحاول أن تُنظم الحضارة بشكل حكومي، فلقد وجدت في الحقيقة ولا تزال توجد حتى اليوم، بأن السياسية تسعى من خلال كل ما أوتيت من امكانات في مجال التحكم في وسائل الاتصال والتقنيات المختلفة الى مقاومة تسرب التاريخ ونفوذه إلى المجتمع، ولفهم هذا التحكم الحكومي نستطيع ان نُميز بين نمطين من الذاكرة “الذاكرة الجمعية”، كردة فعل تنظيري للذاكرة التواصلية في مقابل “الذاكرة الحضارية”، فبينما تتأسس الذاكرة التواصلية عبر التواصل اليومي والتفاعل العفوي ضمن مجتمع ما يُعرف والذي يمكن ان يعبر عنهُ بانهُ مخزون هوياتي يتسم بالاستقرار والثبات وتجتمع فيه الخبرات الحضارة برمتها على مر العصور، وهو تعبير ذاكراتي عن رغبات مُلحة واهتمامات راهنة لدى جمع معين من الناس في الحاضرة، وبالتالي كـمجموعة خبرات وتجارب تاريخية لحاملي هذه الذاكرة، والتي تتسم محتوياتها حسب أسمان من كونها متغيرة وغير ثابتة تتبدل ولا تستقر ولا تعرف قراءة ثابتة لها، في حين أن الذاكرة الحضارية قائمة على أسس مؤسساتية وهي بهذا ممارسة تذكرية حضارية تتسم بالثبات والاستقرار، وتحتوي كل التجارب والخبرات السحيقة لحضارة ما عبر تاريخها إلى جانب أحداث ووقائع تُفسر وتؤول عبر مجموعة من الطقوس والوسائط الذاكراتية. ان هذا الطابع اللاعفوي، وبالتالي المعياري، يُلخص على انهُ مخزون حضاري وهوياتي خاص بكل مجتمع يمتد الى حقب زمنية طويلة؛ حيث انهُ يتكون من نصوص وصور وطقوس قابلة للممارسة باستمرار تقوم على حالة المحافظة بخلق الصورة الذاتية والمستقرة (ذاكرة صورية) لحضارة معينة، وهي تُعد معرفة جمعية حول الماضي يُشترك فيها ويُستند إليها أثناء لحظة وعي حضارة ما لذاتها؛ هذه هي المعيارية التي ترتكز عليها السياسة، فإن الذاكرة الجمعية هي بالذات ما يجعل هذا النمط التذكري مناسباً للسلطة السياسية، عكس التذكر التواصلي، الذي لا تعبأ به السلطة كونه لا يسمح بشرعنة وجودها، مثل التذكر الحضاري، الذي لا يقدم لها أجوبة تاريخية عن أصلها وفق رؤيتها فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى كونه تعبيراً معيارياً يعكس نظرتها لذاتها والذي تحاول فرضه في السياق المجتمعي ضمن نظام سياسي مجتمعي مُعين، لهذا فالسلطة السياسية تحاول جاهدة الأستئثار بهذا النمط الذاكراتي المعياري في أشكال مُختلفة من السلطة السياسية تسعى من خلال كُل ما أوتيت من أمكانات في مجال التحكم في وسائل الاتصال والتقنيات المختلفة الى مقاومة تسرب التاريخ ونفوذه إلى المجتمع، وهذا ما يؤدي إلى أنتاج ذاكرة مُتلاعب بها إيديولوجيا، أي أنها صارت ذاكرة مؤدلجة ليست فقط من جهة الحاكمين، بل أيضا من جهة المحكومين.
ذلك فإن أدلجة الذاكرة أمر ممكن ويكون ذلك عن طريق موارد التنوع التي يُقدمها عمل التصوير السردي، ففي هذا السياق يشرح Paul.Ricoeur قائلاً: أن الوظيفة السردية للذاكرة المؤدلجة هي فائض القيمة الذي تُضيفه الإيديولوجيا إلى الثقة التي يقدمها المحكومون لكي يستجيبوا لمطلب الشرعنة المُقدمة من قبل الحاكم، يمثل هذا حبكة سردية في القصص التأسيسية وقصص المجد والإذلال الذي تُغذي خطاب التملق والخوف. وهكذا يصبح من الممكن لنا أن نربط إساءات أستعمال الذاكرة المقصودة بتأثيرات التحريف والتشويه الأتية من المستوى الظاهري للإيديولوجيا، على هذا المستوى الظاهر تكون الذاكرة المفروضة فرضاً مُسلحة بتاريخ مسموح به هو التاريخ الرسمي، التاريخ الذي يُعلم ويحتفل به علناً أمام الجميع. هنا نصل مع Ricoeur إلى نتيجة مفادها أن الذاكرة المؤدلجة يختارها النظام كمُعبر عن هويته، ويفرضها ليس فقط بوصفها ذاكرة رسمية لسلطته، بل على أساس كونها ذاكرة وحيدة يجب التصديق بها والإيمان بمحتوياتها التاريخية التي صارت بفعل الأدلجة محتويات معيارية؛ في هذا الإطار الوظيفي الرسمي ذي الأيديولوجية السياسية يدخل كل ما وصل إلينا تقريبا من مصادر تاريخية مُستعينين فيها في الحاضر أيضاً، المُلاحظ هنا أن أدلجة الذاكرة ليست بالضرورة من صنع نظام شمولي فحسب، فهي ليست أختصاصاً أستبدادياً، بقدر ماهي تعبير عن طبيعة وبُنية السلطة السياسية في حد ذاتها، أي القدرة والسطوة في فرض هويتها السياسية بالكيفية التي تراها مناسبة لمصالحها، وبالتالي تسويقها داخليا وخارجيا بالإستفادة من الذاكرة والتاريخ.