قبل السعي لإيجاد إجابة عن سؤالنا في هذه الرؤية: أين يكمن الخطاب الطائفي؟ نجد لزاماً علينا أن نتوقف عند من يعتبرهم الأستاذ الوردي في كتاب وعاظ السلاطين، وكذلك في كتب أخرى له من أهم عوامل استشراء علة الطائفية والذين هم طبقة الوعاظ، إن الدكتور علي الوردي يُحمل هذه الطبقة مسؤولية جسيمة للغاية، ففي كتابه هذا نجده يُلقي على عاتق تلك الطبقة بمسؤولية تشكيل الطبيعة الخانعة والانهزامية للأفراد الذي يصورهم على أنهم أدوات غاية في النجاعة تعمل على تطبيق ما يعرفه التوسير بالاستدعاء(interpellation)، هذه الفعالية التي هي بحسب ما يرى التوسير عملية غير مرئية، وهي أشبه ما يكون بمنح شخصٍ ما اسماً، أو تعيين دورٍ له يتم تشجيعه على تقبله دون أي استعمال للعُنف، وكذلك منحهُ قيماً يعتقد أنها قيمة، وأنها تعمل على أن ترسم في أذهان الأفراد ما يعتقدون أنهُ أكثر الأساليب منطقية ووضوحاً للعيش، وربما يتضح هذا التصور أكثر ما يكون عند مطالعة ما يقول الأستاذ الوردي عن كون جماعة الوعاظ تعمل على أن تصعق الناس وتنذرهم بعذاب الآخرة حتى أنسوهم بذلك كل ما حل بهم في الدنيا من عذاب مُقيم، وأنه بسبب الوعظ والوعاظ أصبح الناس شديدين في نقدهم لغيرهم، وذلك بحكم ارتفاع سقف المطالب الأخلاقية التي يطلبها منهم الوعاظ والدعاة، ولأنهم أي الأفراد العاديين لا يستطيعون تطبيقها على أنفسهم سيلجؤون الى تطبيقها على غيرهم من الناس، ولهذا السبب سيكون نقدهم قاسياً وشديداً، ثم يعود الأستاذ الوردي من جديد لكي يُقرر أن يرسم ملامحاً أوضح للدعاة وكل المشتغلين في الوعظ، وذلك في مُصنفهُ الموسوعي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق حين يصف وظائفهم بأنها التمسك بعقيدة من العقائد الدينية أو السياسية لكي يدعون الناس إليها، لهذا يجدهم مُضطرين الى أن ينظروا الى أحداث التاريخ نظرة تقييمية حسب معيار العقيدة التي يدعون إليها؛ قبل أن نتوقف هنا عند الصورة التي رسمها لشخصية الواعظ حتى نبني على أساسها إجابة سؤالنا ومحور رؤيتنا، ربما يمكننا وتحرياً للسهولة اختصار أبرز ملامح تلك الصورة وهي: أن يكون الواعظ فارضاً هويته الطائفة أو السُلطوية من خلال تحديد مواضيع الممارسات والشعائر في حيز ثيولوجي يسحبها الى إطار الموحى به من الله، وذلك من خلال التعامل مع النص التاريخي بانتقائية تخدم توجهاته، وكذلك من خلال سحب تأويلات هذا النص الى واقع هلامي تتعدد وجوهه ويمكن أن يتجدد حضوره في مناسبات مُختلفة، ثم التركيز على مثالب المجتمع وجر الواقع المزري الذي يعاني منه الى نطاق (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، إن الوصف السابق للشريحة التي كان الأستاذ الوردي قد عقد العزم على مخاطبتها يجعل من الاستعانة بنصوص التاريخ الرسمي لمناقشتهم وتفكيك طروحاتهم شيئاً يكاد أن يكون بلا جدوى، فتلك النصوص التي ينبغي الضحك قبل دراستها كما ينصح الأستاذ الوردي يمكنها أن تسن أكثر من علاقة تنافس طائفية جديدة في حال إعمال النظر فيها بشكل كُلي، وذلك بحكم إرث التناحر المذهبي الذي تحتويه، وهو ما يجعل منها عند مخاطبة من يسميهم بالعوام أشبه بصب الزيت على النار، وعند مخاطبة الوعاظ شيئاً لا يمكن أن يتم إلا عبر اقتطاع نصوص وأحداث من مجراها التاريخي لإثبات وجهة النظر التي يراد إثباتها، وهذا ما كان الأستاذ الوردي يعيبهُ على الوعاظ بصورة عامة، بالرغم من إنه قد عمل بهذه الآلية في قراءة التاريخ الإسلامي بمختلف مراحلة، ربما يمكننا القول إن الأستاذ الوردي قد فوت على نفسه مدخلاً مثالياً لدراسة المُعضلة الطائفية التي عاصرها في وقته عندما توجه لنصوص التاريخ الرسمي مهملاً أهم روافد الذهنية الطائفية، والتي هي الذاكرة الخاصة بمذهب بعينه، إننا هنا لا بد لنا من أن نقف لكي نميز بين التاريخ الذي أستنجد به الوردي والذاكرة المذهبية التي أغفل عنها بصره، إذ تتعارض الذاكرة المذهبية مع التاريخ في نقاط لا بد من الوقوف عندها، ففي الوقت الذي يمكننا أن نعرف فيه التاريخ بوصفه ذاكرة شمولية واسعة للغاية، شقت سبيلها الى الزمن الراهن من خلال اعتبارها في أغلب الأحيان مجموعة من الأخبار أو الصور ذات درجة مُعينة من الموثوقية عن مجريات الماضي، فنجد إن الذاكرة المذهبية تشكلت من خلال اعتبارها هدفاً بحثياً واعياً يسعى الى أن يسترد وبانتقائية من الذاكرة الشمولية تاريخ ما يرغب في اثباته بوصفه حقيقة غير قابلة للشك مع ملاحظة إنها قد لا تكون كذلك، وهي ذات معان انعكست على الحاضر المُعاش بطريقة أو بأخرى، وكذلك تتمايز تلك الذاكرة عن التاريخ بوصفها نتاج التكرار المقصود، والذي يسعى الى أن يرسخ عاطفة ما أو انطباعات معينة نحو أفراد أو أحداث بعينها، في حين نجد إن التاريخ لا يعدو أن يكون أعادة وصف لما أصبح غير موجود الان بحكم كونهُ من الماضي ولما هو في واقع الحال وبحكم آليات الجدل أو التناكف والتسقيط الطائفي غير مكتملاً وغير صادق في كثير من مناحيه، وهذا ما يجعل من حضور التاريخ عند دراسة مُشكلة الطائفية يثير من الإشكاليات ما يثيره، هذا حتى وإن كُنا نستعين عند استحضاره بالأدوات أو المناهج التي نفترض أنها صحيحة، إن الذاكرة المذهبية وفق الذهنية الطائفية هي خير ما يشكل سلطة الماضي الممتدة الى الحاضر، وعلى هذا الأساس سوف لن يتبقى من دور يذكر للنص التاريخي الرسمي، إذ ستناط الى شذرات منه فقط مهمة العمل كموجهات لمسارات الذاكرة المذهبية، أما جلهُ الأعم فسيتم إسقاطهُ بدعوى الطعن بموثوقية من مرروا الخبر من أوان حدوثه الى القادم من الزمن عبر روايته بصدد الاستعانة بالذاكرة المذهبية ومدى تأثيرها على الأفراد؛ هناك مثال يسوقه الأستاذ الوردي في الجزء الأول من كتابه اللمحات، وذلك عندما يتطرق الى شخصية محمد باقر المجلسي ومدى تأثيره في عصره وكيف إن بعض مصنفاته التي يرفضها الوردي وينتقدها بشدة كونها احتوت على الغث والسمين شكلت في واقع الحال أهم مصنفات عصره، حيث يشير الوردي الى إن مؤلفات المجلسي عملت على تكوين رافد لا ينضب أستقى منه الوعاظ والخطباء كل ما يروق لهم من أجل أن يغزو أذهان العامة ويجعلوهم يُحلقون في عالم من الأوهام لا صلة له بعالم الواقع الذي يعيشون فيه، رغم كل ما فيه من مثالب، وربما يرجع التأثير البالغ للنصوص والمرويات التي شكلت الذاكرة الطائفية في مختلف المذاهب الإسلامية الى إن تلك النصوص رسمت تقارير كونية عن الانسان في ماضيه وفي نقطة مئاله، لذا فإن تلك النصوص تعمل على أن تنتج عند متلقيها ذاتاً مغلقة ثابتة الجوهر تعترف بما نُقل لها من خلال قنوات معينة دون سواها، وترفض كل ما يأتي من خارج المشهد المألوف. إن الأستاذ الوردي يُقر وإن كان ذلك ضمنياً بتلك الحقيقة، وذلك عبر إيراده روايات تاريخية عن دعاة ووعاظ أزاحوا معطيات التاريخ وما هو راسخ من العقائد الإسلامية الى جنب، بغية إحلال معطيات بعيدة عنها كل البعد في أذهان المُجتمعات التي زامنتهم الى درجة جعل أحد صحابة النبي يتلقى الوحي، أو جعله يجلس بمقربة من الله يوم القيامة لأنه قاتل وقتل صحابة أخرين..
أصبح في تلك المجتمعات من الثوابت الدينية ذات الأساس الطائفي التي يسفكون فيه دم كل من يُخالفهم! ببساطة يذهب الأستاذ الوردي الى إن الواعظ حينما يصرح بأن ما يقدمهُ هو بالتحديد عماد الحقيقة فإنه يثبت هذا الشيء من خلال تقديمه للمجتمع توافقات فكرية مُستلة من مدونات الماضي، والذي يملك هو وأمثاله تخويلات لتقديم تأويلات لها، ربما هي في بعض الأحيان تسير مع أهوائه الشخصية ومنفعته الذاتية، وفي أحيان أخرى تساير مزاج السلاطين أو نظام الحكم الذي يحدد صورة الوعظ بما هو ممنوع أو مسموح، وفي كلا الحالتين فإن كل من يخالف الواعظ أو يناقشه فإنه يجعل نفسه عرضة لغضبه.
بعد أن مررنا على أهم ملامح مشروع علي الوردي الذي تناول فيه الإسلام المبكر ومشكلة الطائفية أو ما كان يسميه بمعضلة الإسلام أصبح بوسعنا الان أن نحدد النتائج من خلال وضع إجابات لبعض التساؤلات التي تتناغم مع هذه الرؤية؛ لقد كانت كتب التاريخ الرسمي هي المصدر الأساسي الذي اعتمده الوردي في دراساته ومقارباته للتاريخ الإسلامي، وذلك برغم ما كان يعيبه في مؤلفاته على تلك النصوص، فقد اعتبرها مثاراً للسخرية، وهي في اعتقاده كانت في اغلبها من نتاج وعاظ السلطة، وقد اعتمد الوردي على أسلوب اقتطاع النصوص وعزلها من سياقاتها، والنظر بعين واحدة الى جانب اعتبره هو سلبياً من منطلقات ذاتية، وهو ما يجعل من نصيبه من التوفيق في التعامل مع مصادر دراسته محدود للغاية، كما كان من الممكن للأستاذ الوردي الانطلاق في مشروعه لدراسة معضلة الطائفية في الإسلام من خلال مصادر أخرى متعددة ابرزها هو الخطاب المعتدل عند وعاظ الطوائف الإسلامية والذين تجاهل الوردي وجودهم بشكل تام ولغاية تخدم أفكاره المُسبقة عن موضوع دراسته، وكذلك التاريخ المذهبي للطوائف الإسلامية والذي أستبعده كثير من المؤرخين المسلمين من مدوناتهم، لكنه بقي بمثابة المسكوت عنه في الثقافة الإسلامية، فمن خلال هذا التاريخ يمكن التعرف بدقة على وجوه التقارب والتباعد بين مذاهب المسلمين وبصورة واقعية تبتعد عن هيمنة السلطة وعن الصورة المثالية التي يحاول بعض الباحثين والمؤرخين رسمها عن العلاقات التاريخية بين المذاهب الإسلامية، فضلاً عن أنه حدد مكمن الخطاب الطائفي بين مذاهب المسلمين بطبقة معينة من رجال الدين والتي هي طبقة الوعاظ، فقد اعتبرهم بمثابة من يتولى تحرير النصوص التاريخية وإعادة تفصيلها على أسس معينة خاصة بهم، وقد جانب الوردي في تحديده هذا عين الصواب الى حد بعيد، فكل من هم على دراية بالتاريخ الإسلامي يعلمون إن الوعظ والخطابة الدينية كانت وحتى زمن قريب تخضع الى رقابة مشددة من قبل السلطة الحاكمة، وهو ما يجعل من الخطاب الوعظي في أغلب الأحيان وليد رؤى الحاكم وتطلعاته، وفي حال وجود خطاب مضاد فانه عادة ما يأخذ صورة النصوص المكتوبة كرسائل أو كتب، وفي اغلب الأحيان خُطب تلقى بعيداً عن عين الرقابة، وهو ما يحد في المحصلة الأخيرة من فاعلية الواعظين والخطباء سواء بالسلب أو الايجاب، وإن مساهمة هذه الطبقة من رجال الدين في معضلة الطائفية لن يكون لها في الواقع بالغ الأثر إلا في حالة سماح السلطة لهم بتأدية هذا الدور.