صحافة ورأي

الصّبر الروسي والتّغوّل الغربي؟!

بقلم فضل المهلوس

ربّما كان مفهوماً بل ومستوعباً لجوء روسيا إلى سياسة الصّبر الإستراتيجي في مواجهة الغرب الاستعماري المتوحّش على امتداد الأراضي الأوكرانية، وفق منطق: “أردتموها حرب استنزاف لروسيا، فلتكن حرب استنزاف لكم كذلك”، لكن كيف فهم الغرب النيتوي الصبر الروسي، وكيف فسّره وتعامل معه، وهل احترم الغرب توقيع زعمائة على بروتوكول مينسك عام 2014 ثم اتفاقيات مينسك يوم 5/9/2015 والتي صادق عليها وتبنّاها مجلس الأمن الدولي في17/2/2015، أم لحس وتنصّل من توقيعه كالمعتاد، وهل كان الأمر يستحق انتظار ثماني سنوات في إقليم دونباس من القتل والتدمير كي تدرك روسيا حقيقة نوايا الغرب النيتوي بالسعي الجاد والجدّي لاستهداف روسيا وتفتيتها ونهب ثرواتها وخيراتها، وهذا ديدنه وسلوكه الأصيل الذي لا يمكن له أن يحيد عنه، وإن تخلّق بغير ذلك، فالطبع يغلب التطبّع والأصل غلّاب دوماً، غير آبه بحجم ووزن وقوة روسيا في الساحة العالمية والدولية، مستنداً بل ومستغلّلاً، أيّما استغلال، الجنوح الروسي المعروف نحو السلام والتسويات، والتي لا يُقدم عليها الغرب الاستعماري عبر تاريخه المشهود سوى للخداع والمراوغة، متحيّناً أيّة فرصة يراها مناسبة للانقضاض والإجهاز الوحشي على خصومه..؟!

لكن ما لم يعد مفهوماً ومستوعباً استمرار روسيا بذات استراتيجية الصبر الإستراتيجي الصائبة، والتي تؤتي أُكلها وتجدي نفعاً، لكن ليس مع الغرب المتوحّش والخسيس، وخصوصاً بعد تفجيرات خطوط “نورد ستريم” ومراوغة الغرب حتى في التحقيق بشأنه، وكشف ملابساته، وإظهار حقيقة مرتكبيه، وكان لافتاً موقف ألمانيا المتضرّر الأول من هذا الفعل الإجرامي وطمس ملابساته، والذي خالف مصالح الشعب الألماني نفسه دون مقابل أو حتى تقدير. حيث كانت هذه الجريمة كاشفة فاضحة ونزعت عن هذا الغرب آخر أوراق التوت التي يتدثّر بها لستر ما يمكن ستره من عوراته الواضحة وضوح الشمس. وتواكب ذلك مع فضح كبيرة دبلوماسيي الغرب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وتأكيد زميلها الرئيس الفرنسي هولاند لمسببات إقدامهم لإبرام سلسلة اتفاقيات مينسك مضّطرّين، كي يتكمنوا من خداع روسيا، وكسب المزيد من الوقت، لتقوقية ميليشيات نظام مهرّجهم المفضوح في كييف زيلينسكي، معتمدين أيضاً على الصبر الروسي المعهود؟!

ثمّ كان التجرّؤ الغربي المتدرّج، وفق سياسة داهيتهم المقبور “كيسنجر” الذي صاغ سياسة: “خطوة.. خطوة”، لتبليع الخصم ما يريدونه، وحصره في خانة “الدفاع” وحفرة “رد الفعل” السحيقة، حيث كان تفجير الجسر الرابط بين روسيا وجزيرة القرم الروسية المُهداة عن طيب خاطر ومحبّة من الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف، في أواسط خمسينيات القرن العشرين الماضي، وتحديداً عام 1954. ثمّ توالى التجرؤ البغيض فطال كافة الخطوط الحمراء التي اشترطها الغرب نفسه لتسليم أسلحته الفتّاكة لعصابات كييف، حيث قُصفت القرم ومدنييها، ووصل الأمر بإرسال مسيّرات لضرب الكرملين نفسه مركز السيادة الروسية. وذهب التغوّل النيتوي إلى ما وصلنا إليه مؤخراً من اجتياح الأراضي الروسية في منطقتي كورسك المشهورة ومقاطعة بيلغورود، والتي يفترض أن تمثّل الشعرة التي قصمت ظهر البعير، أو كما يقال “إنّما للصبر حدود”؟!

وهنا لا بدّ لنا أن نستذكر ما علّقت به الناطقة باسم الخارجية الروسية على تصريحات ميريكل الفاضحة: “إنهم كانوا يُقوّون أوكرانيا، ولم تعتمد على اتفاقيات مينسك، فإننا نتحدث عن حرب مخطط لها مسبقا ضد روسيا، ولا تقولوا لاحقا “أنتم لم تستمعوا إلينا.”؟! نعم إنهم لم يستمعوا لكم، ولن يستمعوا لكم مطلقاً، لأن مخطط تدمير روسيا وتفتيتها والهيمنة عليها، ونهب ثرواتها واقتسام خيراتها، قد طُبِخ في غرفهم السوداء منذ عهد غورباتشوف، وفور حلّه المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو، وحتى قبل أن يذهب تعهّدهم له بعدم توسّع النيتو مجرّد “بوصة” واحدة شرقاً أدراج الرّياح، وهم الذين لا عهد ولا وعد لهم، بل ويزخر تاريخهم الأسود بالخداع، ونقض كلّ المواثيق والعهود؟!

والأمر لا يقتصر على أوكرانيا فقط، فهم يتعاملون مع روسيا بمنتهى الخسّة والاستهتار، بل ويتعاملون مع كافة تهديداتها وتحذيراتها بلا مبالاة واستحقار، فها هم في الساحة السوريّة لا يقيمون وزناً لكافة التفاهمات التي اتفقوا عليها مع روسيا بهدف تجنّب المواجهة والصّدام المباشر. بل ويذهب كيانهم لضرب كافّة حلفاء موسكو أو المقرّبين منها في عقر دورهم، ويحرّكون أدواتهم ممن عَلفوهم وصنعوهم من “داعش” وأخواتها، لضرب وحدات الجيش الروسي في سوريا، وضرب كافة ما يُسمّى تفاهمات نتنياهو ـ بونين بعرض الحائط ، وبصورة شبه يوميّة، وكذلك يفعلون في غزة والضفة والقدس، حيث حوّلوا دار العبادة الروسية “المسكوبية إلى “مسلخ بشري”، وما لم يتم وضع حدّ قاطع جازم لتغوًلهم فسيذهبون أبعد من ذلك بكثير، وهم ماضون في ذلك، بلا ضوابط ولا حدود، ولا خطوط بشتّى الألوان، وقد يأتي يوماً يتجرأ فيه “الكيان” المتوحّش والمنفلت من عقاله، يُهدّد فيه بضرب موسكو وبكّين كذلك، وهو الذي قال مسؤولوه السياسيين والعسكريين بأن “يده الطولى” يمكنها أن تطال أي بقعة في العالم لا تروق له؟!

صحيح أن هذا “الكيان”الذي صنعه الغرب الاستعماري ليكون قاعدة قتالية متقدّمة لحماية مصالحه الحيوية في المنطقة العربية والشرق أوسطية، والذي إكتسب شرعيّته الدولية بتوافق أمريكي ـ  بريطاني ـ فرنسي ـ سوفييتي ـ صيني. لكن ذلك كان ما قبل حرب الإبادة والمجازر والجرائم في غزة والضفة والقدس، حيث ما بعد “طوفان الأقصى” ليس كما قبله، حيث ذاب الثلج، وبان المرج، وتساقطت كافة الأقنعة ومساحيق التجميل، وقد أسمعت صرخات الأطفال والأمّهات الثّكالى، وتوسّلات الأبرياء المستهدفين مَن به صمم ، وأنطقت الشجر والحجر قبل البشر، كاشفة حقيقة الوحش الذي صنعه الغرب الاستعماري، وشرّعته الدول دائمة العضويّة في مجلس الأمن الدولي، المعني الأول بتطبيق ميثاق الأمم المتحدة، وقرارات الشرعيّة الدولية، وفرض السّلم والأمن والأمان في ربوع العالم؟!

فهل تعيد موسكو وبكّين ومَن معها من أحرار العالم، النظر في استراتيجيّتهم تجاه هذا الغرب المتوحّش، الذي يستهدفهم في المقام الأوّل، وتنزع الشرعية التي منحتها لهذا “الكيان” الوحش الكاسر، الذي يتعامل معهم بمنتهى الاستخفاف والخِسَّة، وقد تجاوز كلّ الحدود حتى الأنسانيّة والأخلاقيّة، وبلا أدنى رادع أو أي حسابات لأحد، وقبل أن يصل الخطر الداهم إلى موسكو وبكّين وباقي العواصم الحُرّة كذلك، وبلا انتظار أو تسويف لن يأتي بجديد، بل ولن ياتي؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى