شأنهم في ذلك شأن كلّ المجرمين واللصوص، سواءً أكانوا أفراداً أم جماعات أو حتى دولاً، يحاولون بشتى الأساليب الدنيئة طمس كافة معالم جرائمهم ولصوصيّتهم، لدرجة ارتكاب جرائم إضافية تصل لدرجة قتل وإبادة الشهود ومحو أي أثر ولو محتمل يدلّ او حتى يمكن أن يشير إلى ما اقترفوه من جرائم ولصوصية. وهذا ما يرتكبه “الكيان” الصهيوني بشكل ممنهج ومقصود بل وهاجسي لتشريع وتسويغ وجودهم الخاطيء على الأرض الفلسطينية وزرعهم الشيطاني في قلب المنطقة العربية والشرق أوسطية، وهم يدركون ومَن زرعهم من غرب استعماري في غفلة من حقب تاريخ الضعف والهزالة أنهم حتماً إلى زوال، وأنهم ليسوا سوى مجرمين ولصوص عابرون في زمن عابر، هم ومَن زرعهم!؟
شطب شهود النكبة واللجوء: المخيمات والأونروا
بعيداً عن الغرق في التفاصيل، لقد أفرزت النكبة الفلسطينية ظاهرتين فريدتين هما: الأونروا، والمخيّم الفلسطيني. حيث باتتا تمثّلان الشاهدين الحيّين على تلك النكبة المشينة للعالم المعاصر، والعجز الدولي المخزي لفرض قراراته وتنفيذ إرادة الإجماع الدولي والقانون الدولي والإنساني، وحل قضية اللجوء الفلسطيني الذي شارف على تمام عقده الثامن، بحيث غدا أطول لجوء إنساني قسري لا مثيل له في التاريخ الإنساني الحديث وربما حتى القديم؟!
وكان من الطبيعي لطمس كافة معالم الجريمة الصهيونية ـ الاستعمارية الغربية النكراء بحق الشعب الفلسطيني، أن يتم استهداف هذين الشاهدين الحيّين بشتى الوسائل الدنيئة واللاإنسانية بل واللاأخلاقية للإجهاز وشطب شهود تلك النكبة واللجوء، وإعادة كتابة التاريخ وفق الرواية الصهيونية الزائفة والمزوّرة بل والمختلقة، وفرض “الكذبة الكبرى” على العالم والمنطقة بشتى الأحابيل وعمليات الخداع والإفتراءات الممنهجة والهادفة، بغية تشريع وتطبيع “الكيان” الغاصب، وكأن شيئاً لم يكن؟!
فأمّا الأونروا التي تأسست بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الرابعة بتاريخ 8/12/1949 رقم 302 “لتقوم بالتعاون مع الحكومات المحلية بالإغاثة المباشرة وبرامج التشغيل” وفق ما نص عليه بند التأسيس رقم 7 فقرة أ. وتجدر الإشارة إلى أن قرار التأسيس قد تصدّره تذكير الجمعية العامة بقراري دورتها الثالثة رقم 212 الصادر يوم 19/11/1948 ورقم 194 بتاريخ 11/12 /1948 “اللذان يؤكّدان بصورة خاصة أحكام الفقرة 11 من القرار الأخير 194 “والتي تقرّر فيها تلك الجمعية وجوب السماح بالعودة ودفع التعويضات” وَ “تصدر تعليمات إلى لجنة التوفيق بتسهيل إعادة اللاجئين، وتوطينهم من جديد، وإعادة تأهيلهم الاجتماعي والاقتصادي، وكذلك دفع التعويضات”؟!
وبموجب ذلك التفويض الصريح باشرت الاونروا في الربع الثاني من عام 1950 عملها تجاه أكثر من 700 ألف لاجئ فلسطيني وفق إحصائياتها الرسمية، وكانت 69% من موازنتها وقتذاك تذهب لتمويل عملياتها في مجال الإغاثة، لكن في ستينيات القرن الماضي برز دورها في مجال التعليم والذي نتج عنه أجيال من الكفاءات والمؤهلات الفلسطينية انعكس تأثيرها على عموم دول المنطقة وخصوصاً دول الخليج العربي، الأمر الذي أثار حفيطة “الكيان” الذي يهدف من جملة ما يهدف إلى “تجهيل” الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية، واحتكار العلم والمعرفة. وقد باتت الأونروا تدير أكثر من 700 مدرسة يشتغل فيها أكثر من 23 ألفاً وتحوي ما يفوق نصف مليون طالب وطالبة من لاجئي فلسطين في مناطق عملياتها الخمس الرسمية: الضفة والقدس، قطاع غزة، الأردن، سوريا، لبنان. وأصبح برنامج التعليم يحتل مكان الصدارة لدى برامج وأنشطة الأونروا، وتكرّست تبعاً لذلك شراكة ثلاثية بين الأونروا والدول العربية المضيفة والمانحين، وانتظمت هذه العلاقة المنصوص عليها وفق قرار التأسيس ضمن سلسلة من الاجتماعات العادية والطارئة، وذلك بهدف الإشراف على عمل الأونروا وتوجيهه.
وكون الأونروا باتت تمثّل استمرار الالتزام الدولي بقضية اللاجئين الفلسطينيين، وتكرّس ديمومتها في ظل العجز الدولي المتواصل عن فرض قراراته ذات الصلة، فقد كان من الطبيعي ان تكون في دائرة الاستهداف الإسرائيلي ومنذ تأسيسها، حيث تجلّى هذا الاستهداف في جملة من التكتيكات الخبيثة، بدءاً بإعاقة عملها مروراً بتقليص خدماتها وانتهاءً بشيطنها واعتبارها “منظمة إرهابية بغية شطبها الذي يعتبر جزئية هامة في الاستراتيجية الإسرائيلية لشطب قضية اللاجئين الفلسطينيين والتنكّر لحقوقهم الثابتة والمشروعة، وفي المقدمة منها حقهم في العودة والتعويض”، وهو ما يحتاج إلى بحث تفصيلي ليس هنا مجاله؟!
وأما الشاهد الثاني الحيّ المستهدف شطبه فتمثّل في المخيّم الفلسطيني الذي أصبح بؤرة ثورية متجددة. فقد أفرز اللجوء القسري الفلسطيني 58 مخيماً معترف بها من الأونروا فضلاً عن عدد من تجمعات اللاجئين غير المعترف بها، توزعت في مناطق العمليات الخمس على النحو التالي: 19 في الضفة الغربية والقدس، 12 في لبنان، 10 في الأردن، 9 في سوريا، 8 في قطاع غزة، وقد حظيت الأردن بأكبر نسبة من اللاجئين الفلسطينيين سواء من نكبة 48 أو من نازحي 1967.
ولعل ما يجري في قطاع غزة وحالياً في الضفة الغربية من استهداف ممنهج لتدمير بل ومحو المخيمات من الوجود، يثبت مدى الحقد الدفين والمبيّت تجاه مخيمات اللاجئين الفلسطينيين كشاهد حي لقضية اللجوء الفلسطيني واستمرارية المطالبة بحق العودة إلى تراب فلسطين التاريخية، هذا الحق المتوارث جيلاً بعد جيل، والذي لا يسقط بالتقادم وتقره كافة القرارات الدولية ذات الصلة، وينسف الرواية الصهيونية من أساسها، ويقوّض أحلام وأماني “جولدا مئير” إبنة كييف الأوكرانية التي قالت ذات يوم: “الكبار يموتون والصغار ينسون”؟!
وممّا يسترعي الانتباه أن محو وشطب المخيم الفلسطيني لم يقتصر على الكيان المجرم بشكل مباشر، بل طاول تسخير أدواته أيضاً للقيام بالوكالة بهذه المهمة، وهو ما تجلّى بوضوح على الأرض اللبنانية من استهداف للمخيمات الفلسطينية، ليس شطب ما أمكن شطبه فحسب، وإنّما للحيلولة دون إعادة تعمير ما جرى تدميره من تلك المخيمات حتى اللحظة. وكذلك على الأرض السورية بفعل عصابات “داعش” وأخواتها صنيعة الحلف الامريكي الصهيوني باعترافاتهم بأنفسهم، علماً أن هذه المخيمات قد نأت بنفسها عن الولوج في دهاليز الصراعات القطرية منذ بدايات ما سُمّي “الربيع العربي”، ورغم ذلك جرى استهدافها بصورة متعمّدة وممنهجة، بدءاً بمخيم الرمل في اللاذقية، مروراً بمخيمات الشمال السوري، وانتهاءاً بمخيم اليرموك الأكبر؟!
وبطبيعة الحال، فإن تلك الاستراتيجية الصهيونية الواضحة الأهداف والمعالم، وبشتى تكتيكاتها المذكور منها وغير المذكور، تعتبر معياراً دقيقاً للحكم على كافة الأفعال ومن أي طرف أتت، وبغض النظر عن القصدية والتعمّد المعلن منه والمستتر، من حيث أن كون أي فعل منها يصب في المحصّلة النهائية أو يخدم تلك الاستراتيجية بتكتيكاتها المختلفة والمتنوّعة. فالشمس لا يغطّيها غربال مهما كبر أو صغر؟!