صحافة ورأي

الديالكتيك في التعليم العراقي، من الصرامة الأكاديمية إلى التوسع الكمي والتحديات الناتجة “تحليل سوسيولوجي”

د. سرور محمد

من الملاحظ أن القرارات التربوية والتعليمية في الآونة الأخيرة بدأت تعكس محاولة لتحقيق العدالة والمساواة في التعليم، لكنها قد تأتي بتحدياتها الخاصة التي تتعلق بجودة التعليم والمعايير الأكاديمية. توازن النظام التعليمي بين توفير الفرص الإضافية والحفاظ على المعايير الأكاديمية هو أمر بالغ الأهمية لضمان فعالية النظام التعليمي واستدامته، ومن أمثلة هذه القرارات الدور الثالث للراسبين: قد يؤدي إلى ضعف في جودة التعليم (Educational Quality)، ودخول الشامل للبكالوريا، قد يؤدي إلى تآكل المستوى الأكاديمي (Academic Standards)، تحجيم المادة الوزارية، قد يؤدي إلى نقص في تغطية المواضيع المهمة (Critical Topics)، من وجهة نظر سوسيولوجية، يُمكن أن تُظهِر هذه التغييرات محاولات لإصلاح النظام التعليمي ضمن سياق اجتماعي وثقافي يتسم بالتحولات، وأيضاً يمكن اعتبار إدخال الدور الثالث وتعديل المناهج كاستجابة لواقع اجتماعي يُواجه فيه الطلاب ضغوطات متزايدة، لكنها في نفس الوقت قد تخلق نوعاً من الهشاشة في النظام التعليمي، حيث تُفضَّل التعديلات السطحية على الإصلاحات العميقة التي تتطلب إعادة تقييم كاملة لمعايير النجاح والتقييم،لأن هذه التغييرات رغم نواياها الحسنة، قد تعكس استجابة لمطالب اجتماعية دون النظر إلى التأثيرات الطويلة الأمد على جودة التعليم وتماسك النظام الأكاديمي، مما يؤدي إلى خلل في تحقيق العدالة التعليمية وتوازن الأداء الأكاديمي، مما قد يُضعِف من فاعلية النظام التعليمي في تلبية احتياجات المجتمع وتطوير الكفاءات المطلوبة لمواجهة التحديات المستقبلية.

إذ يمكن القول إن التغييرات الحالية قد تعكس “اتجاهًا نحو تسهيل التحديات الأكاديمية” (Trend Towards Easing Academic Challenges) الذي قد يؤدي إلى إضعاف القيم التعليمية الأساسية مثل الاجتهاد والتفوق، في حين أن تحسين الفرص قد يكون له فوائد معينة، فإن التعديلات قد تُفرغ النظام التعليمي من صرامته وتُفقده قدرته على تحفيز الطلاب على تحقيق أداء أكاديمي متميز، كما قد تُعزز هذه التغييرات من “الثقافة التعليمية السطحية” (Superficial Educational Culture)، التي تفتقر إلى التعمق والتفكير النقدي، وهذا كله عندما نقارنه بالماضي ، نلاحظ أن النظام التعليمي العراقي يعتمد على “الصرامة الأكاديمية” (Academic Rigidity) مع التركيز على الجهد الفردي والقدرة على تحقيق النجاح في ظل تحديات متعددة. فعلى الرغم من أن الطلاب يواجهون ضغوطًا أكبر لتحقيق النجاح، لكنه كان يعزز من “القدرة على التحمل والإصرار” (Resilience and Perseverance)، و يعكس نهجًا يقدّر الجهد والمثابرة، مما يساهم في بناء شخصية أكاديمية قوية وقادرة على مواجهة تحديات الحياة،حيث كان القبول في الجامعات مرتبطًا بمعدلات عالية و الوصول إلى التعليم العالي محدودًا، إذ كانت الجامعات تعطي الأولوية للأكاديميين الذين أظهروا تفوقًا ملحوظًا في دراستهم،هذا التوجه يعكس النقص النسبي في عدد الجامعات والمقاعد المتاحة، مما دفع المؤسسات الأكاديمية إلى اختيار أفضل الطلاب من بين المتقدمين مما يضفي جودة على التعليم.

لكن مع زيادة عدد الجامعات بشكل كبير أدى إلى زيادة في عدد الطلاب المقبولين، إذ لاحظنا أن التوسع في التعليم العالي جعل الوصول إلى الجامعات أكثر سهولة، وقلل من أهمية المعدلات العالية كمعيار قبولي أساسي. هذا التغير يعكس عملية “التوسع التعليمي” (Educational Expansion) التي تهدف إلى زيادة فرص التعليم لتلبية الطلب المتزايد على التعليم العالي.

بالتالي كان هناك خلل ملحوظ في سياسات التربية والتعليم في العراق، حيث نجد أن الطلاب الحاصلين على معدلات منخفضة في امتحانات الثانوية ولاسيما الوزارية يحصلون على مقاعد في كليات الطب في الجامعات الأهلية، بينما الطلاب الحاصلين على معدلات عالية، مثل التسعينات، يتم قبولهم في تخصصات أخرى مثل الهندسة أو التحاليل المرضية في الجامعات الحكومية، والسبب يعود في هذا كله الى وجود الجامعات الأهلية التي شوهت التعليم الأكاديمي؛ لأنها غالباً ما تكون أقل صرامة في معايير القبول مقارنةً بالجامعات الحكومية. هذه الجامعات تعتمد في جزء كبير من دخلها على الرسوم الدراسية، ما يجعلها تميل لقبول أكبر عدد من الطلاب لزيادة إيراداتها، لذلك أدت هذه الزيادة الكبيرة في عدد الخريجين إلى مشكلات في سوق العمل، عدد الخريجين الآن يتجاوز بكثير احتياجات سوق العمل، وهو ما يعكس ظاهرة “الاحتشاد الأكاديمي” (Academic Overcrowding). في كثير من الأحيان، يجد الخريجون صعوبة في العثور على وظائف تتناسب مع مؤهلاتهم، مما يؤدي إلى زيادة في البطالة بين الشباب المؤهلين والضغط على الاقتصاد، هذه الظاهرة تستدعي نقدا لاذعا لسياسات التعليم التي تركز على التوسع الكمي بدلاً من تحسين جودة التعليم وضمان تناسب الخريجين مع متطلبات سوق العمل، يتطلب الأمر من السياسات التعليمية أن تكون أكثر تنسيقًا مع احتياجات سوق العمل وأن تشجع على تطوير المهارات العملية والتقنية التي تحتاجها الأسواق بشكل فعّال، لذا نحن بحاجة إلى إصلاحات في النظام التعليمي لتعزيز العدالة في التقييم، إدخال نظام تقييم مستمر يشمل الأداء الأكاديمي على مدار السنة، وتعزيز برامج الدعم للطلاب، وتحسين المناهج الدراسية، إذ يمكن القول إن النظام الحالي لا يعكس مبدأ العدالة في التعليم، حيث يخلق فوارق بين التخصصات والفرص التعليمية بناءً على السياسات المالية والأكاديمية بدلاً من أساسيات الكفاءة والتميز الأكاديمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى