ثقافة ومجتمع

تقليم “أظافر” أوكرانيا و”مخالب” الناتو.. عملية عسكرية وليست حرباً

مقال للكاتب والمحلل السياسي الروسي رامي الشاعر حول الازمة الروسية- الأوكرانية والاسباب التي ادت الى اتخاذ قرار التدخل العسكري للتصدي لما اعتبر مؤامرة هددت الأمن القومي الروسي جاء فيه

خلال جلسة مجلس الأمن الدولي يوم أمس الجمعة أعلن مندوب روسيا، فاسيلي نيبينزيا، أن روسيا سوف تنجز مهامها في أوكرانيا قريباً، ونفى قصف الجيش الروسي لمدن أوكرانية.

وكانت روسيا قد صوتت ضد مشروع القرار حول عمليتها العسكرية في أوكرانيا نظراً لـ “طابعه المعادي لروسيا”، حيث علّق نيبينزيا بأن مشروع القرار يتجاهل أحداث استيلاء “القوميين المتطرفين على السلطة في أوكرانيا” عام 2014، والجرائم التي ارتكبوها والدعم الغربي لها. مضيفاً أن الغرب جعل من أوكرانيا “بيدقاً في لعبته الجيوسياسية”.

لقد أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خطابه المطول والمفصّل حول الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، في 21 فبراير الجاري، على طبيعة العلاقة الحميمة بين الشعبين الروسي والأوكراني، فأوكرانيا ليست مجرد دولة مجاورة، وإنما هي “جزء لا يتجزّأ من تاريخنا وثقافتنا وعالمنا الروحي” وفقاً لبوتين. وتابع: “هؤلاء هم رفاقنا وأقاربنا، ومن بينهم ليس فقط الزملاء والأصدقاء ولكن أيضاً الأقارب، ومن تصلنا بهم صلات الرحم والقربى”.

لطالما حذرت روسيا على مدار ثمان سنوات طويلة مجحفة، عانى فيها سكان إقليم الدونباس ويلات الحرب والدمار والشعور المستمر بالخطر الداهم الذي ينتظر على قارعة الطريق. فالعصابات الأوكرانية المتطرفة، وفي أحيان كثيرة بدعم من الجيش الأوكراني النظامي، لم تكن تفرق بين أهداف عسكرية وأخرى مدنية، ووقع في تلك السنوات عشرات ومئات القتلى من الأطفال والنساء، وقصفت المشافي والمدارس وحضانات الأطفال.

وطوال تلك المدة، حاولت روسيا جاهدة أن ترأب الصدع بين مكونات المجتمع الأوكراني، التي شرخها انقلاب عام 2014، فانشق عن البلاد جزئها الشرقي والجنوبي، ممثلاً جبهة صلبة لمعارضة النظام في كييف، فلم يكن من كييف إلا أن لجأت لحلول عسكرية عنيفة، أثبتت فشلها، ثم لجأت العصابات المتطرفة إلى الاغتيالات والأعمال الإرهابية، ثم لجأت الحكومة إلى سياسة الحصار والتجويع وقطع المعونات الإنسانية عن مواطنيها في الشرق والجنوب، لتصبح تلك المنطقة المتاخمة للحدود الروسية “عضواً منبوذاً” في الجسد الأوكراني، تحاول كييف ضمه بالقوة، بينما لسان حالها يدفع نحو بتره.

وعلى مدار السنوات الثمان، وبكل الطرق المشروعة، استمرت توسلات تلك المنطقة لاعتراف روسيا باستقلال هذه الجمهوريات، إلا أن روسيا أصرّت على موقفها الذي يحترم القانون الدولي، ويلتزم بعلاقات حسن الجوار مع الشقيقة أوكرانيا، فكانت النتيجة اتفاقيات مينسك، التي حاولت روسيا وفرنسا وألمانيا من خلال منظمة الأمن والتعاون الأوروبي أن توقف حمام الدم بين الأخوة، وأن تدفع كييف نحو الالتزام بتلك الاتفاقيات التي تحفظ حق جميع الأطراف، وتؤمن لأوكرانيا وحدتها وسيادتها على أراضيها. لكن أوكرانيا، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، كانت تصرّ على خرق الاتفاقيات، وعلى تفضيلاتها لأن تكون مثلما جاء في تصريحات مندوب روسيا في الأمم المتحدة “بيدقاً في لعبة الغرب الجيوسياسية”.

لكن الأمر، مع شديد الأسف، لم يتوقف عند هذا الحد، وبدأت مخالب أوكرانيا تنمو رويداً رويداً، حتى جاء خطاب الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، في مؤتمر ميونيخ للأمن، ليكون القشة التي قصمت ظهر البعير، ولتضع أوكرانيا كل شيء على الطاولة، وتطالب حلف “الناتو” بالانضمام في أسرع وقت ممكن، وتلوّح بالخروج من مذكرة بودابست، واستعادة “الوضع النووي” لكييف، وهو الأمر الذي تحدث عنه الرئيس الروسي في خطابه بقوله إن ذلك ليس مجرد “تبجح فارغ”، وإنما هو تهديد حقيقي، لأن أوكرانيا بالفعل تمتلك تقنيات نووية سوفيتية، ووسائل لإيصال مثل هذه الأسلحة، بما في ذلك الطيران، وكذلك صواريخ “توتشكا-يو” العملياتية والتكتيكية، ذات التصميم السوفيتي، والتي يبلغ مداها أكثر من 100 كيلومتر، وتلك مسألة وقت لا أكثر.

وتابع بوتين في خطابه: “سيكون من الأسهل على أوكرانيا امتلاك أسلحة نووية تكتيكية، لا سيما في حالة الدعم التكنولوجي من الخارج، ويجب ألا نستبعد ذلك أيضاً. إن الوضع في العالم وفي أوروبا، وخاصة بالنسبة لنا في روسيا، سوف يتغيّر بالطريقة الأكثر جذرية، مع ظهور أسلحة الدمار الشامل في أوكرانيا. فلا يمكننا الفشل في الرد على هذا الخطر الحقيقي، خاصة وأكرر، أن الرعاة الغربيين يمكن أن يساهموا في ظهور مثل هذه الأسلحة في أوكرانيا من أجل خلق تهديد آخر لبلادنا”.

إن الأسلحة التي وصلت إلى أوكرانيا في السنوات والأشهر الأخيرة جعلت من أوكرانيا برميل بارود قابل للتفجير في أي لحظة، والذي ستكون روسيا وأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية الوجودية أول المتضررين منه. وقد رأينا بكل وضوح كيف يحاول الغرب على أرض الواقع، وبكل صلف وغرور وعنجهية، أن يضرّ بالمصالح الروسية في أماكن مختلفة من المحيط الروسي خلال الأعوام السابقة، حتى أصبح ذلك التهديد يطوّق عنق روسيا ممثلاً في أوكرانيا.

لقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية و”الناتو” في التعرف على مسرح العمليات العسكرية المحتملة في أوكرانيا دون أن يثير ذلك حفيظة أحد، ودون أن يضع الغرب في اعتباره المصالح الأمنية الروسية بالمرة، وكان التركيز الواضح في التدريبات المنتظمة المشتركة مع أوكرانيا هو العداء لروسيا، في ظل حملة شعواء، تقودها تنظيمات يمينية متطرفة، تختلف في درجات تطرفها، وصولاً إلى الإرهاب الصريح.

وفي السنوات الأخيرة، وفقاً لبوتين، وبحجة التدريبات، كانت الوحدات العسكرية لدول “الناتو” موجودة تقريباً وبشكل دائم على أراضي أوكرانيا. بل وتم دمج نظام القيادة والتحكم للقوات الأوكرانية بالفعل مع أنظمة “الناتو”، وهو ما يعني أن قيادة القوات المسلحة الأوكرانية، وحتى الوحدات الفردية والفرعية، أصبح من الممكن القيام بها مباشرة من مقر “الناتو”.

بالإضافة إلى ذلك، فقد أصبحت شبكة المطارات التي تم تحديثها بمساعدة الأمريكيين في “بورسيبول” و”إيفانو-فرانكوفسك” و”تشوغويف” و”أوديسا” وغيرها قادرة على ضمان نقل الوحدات العسكرية في أقصر وقت ممكن، بينما أصبح المجال الجوي لأوكرانيا مفتوح لرحلات الطائرات الاستراتيجية والاستطلاعية الأمريكية، وغيرها من المركبات الجوية غير المأهولة التي تستخدم لمراقبة الأراضي الروسية.

كذلك صرح الرئيس الروسي بأن مركز العمليات البحرية في أوتشاكوفو، والذي بناه الأمريكيون، يجعل من الممكن ضمان تحركات سفن “الناتو”، بما في ذلك استخدامهم لأسلحة عالية الدقة ضد أسطول البحر الأسود الروسي، وبنية روسيا التحتية على طول ساحل البحر الأسود بالكامل.

وفي ظل وثائق التخطيط الاستراتيجي الأمريكية، ووجود بند ما يسمى بـ “الضربة الاستباقية” ضد أنظمة صواريخ العدو، الذي تنص عليه الوثائق الأمريكية الرسمية ووثائق “الناتو” بصفته التهديد الرئيسي لأمن أوروبا والمحيط الأطلسي، وفي ظل تمدد “الناتو” شرقاً عبر خمس موجات: في العام 1999، تم قبول بولندا وجمهورية التشيك والمجر في التحالف، في العام 2004، بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، في العام 2017 الجبل الأسود وفي العام 2020 مقدونيا الشمالية. وفي ظل نشر مناطق مواقع للصواريخ المضادة كجزء من المشروع الأمريكي لإنشاء نظام دفاع صاروخي متوافق ومعمم في رومانيا وبولندا، بحيث تكون منصات الإطلاق موجودة، وصالحة لاستخدامها لصوايخ توماهوك، الأنظمة الهجومية الضاربة، وليست “الدفاعية” المتسقة مع “سياسة حلف الناتو الدفاعية”. وفي ظل قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتطوير الصاروخ المدمج “ستاندارد-6″، القادر على إصابة الأهداف الأرضية والسطحية، علاوة على حل مشكلات الدفاع الجوي والمضاد للصواريخ، وهو ما يشي بتوسع نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي بقدرات هجومية جديدة. وفي ظل المعلومات المتاحة، والتي تجعل كل الأسباب المنطقية لجعل دخول أوكرانيا إلى “الناتو”، والنشر اللاحق لمنشآته هناك هو أمر مفروغ منه، ومسألة وقت.

في ظل هذا كله، لا أعتقد أن أي دولة في العالم يمكن أن تقبل مثل هذه المخاطر على حدودها، خاصة في ظل نظام غير مستقر، تسيطر عليه عصابات متطرفة، تمارس القتل والاغتيال وملاحقة المعارضين وإغلاق القنوات التلفزيونية، وحجب حق بعض شعوبها عن ممارسة حياتهم وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم المرتبطة بأصولهم العرقية والقومية، حتى يصل الأمر بقوانين البلاد، في ظل اختطافها من قبل هذا النظام، أن تصنّف مواطنيها إلى سكان “أصليين” و”غير أصليين”!

في ظل هذا كله، لا أعتقد أن ما تقوم به روسيا الآن، سوى عملية عسكرية لـ “تقليم أظافر” الشقيق، الأوكراني، التي من الممكن أن تتحول إلى “مخالب” مؤذية لحلف “الناتو” تنهش في جسد الدب الروسي، الذي جاهد طويلاً لالتزام الهدوء والصبر والحكمة ورباطة الجأش، وبذل مجهودات خارقة كي لا يتدخل في الشأن الأوكراني، وبحث عن كل المخارج الممكن لتجنب المواجهة مع “الناتو”، إلا أن الأمر قد خرج عن حدوده، وأصبح يمثل تهديداً صريحاً للأمن القومي الروسي، ومصالح البلاد الاستراتيجية، وأصبح يهدد وجود الدولة الروسية والشعب الروسي. أتمنى بكل صدق وأمل أن تنتهي العملية العسكرية في أوكرانيا، وأن نطوي صفحة الأزمة الأوكرانية، وأن تهدأ الأمور وتعود إلى مجاريها بين الأشقاء. فتلك حضارة واحدة وتاريخ واحد ومستقبل واحد نأمل أن ننعم به جميعاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى