دروس للغرب والعرب من أزمة أوكرانيا – بقلم عبد الواحد الجصاني
أزمة أوكرانيا هي جزء من الصراع العنيف المحتدم في عالمنا المعاصر، وهو صراع خلقته وتديمه دول الغرب منذ أن بدأ ت مشروعها لإخضاع العالم في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.
المشروع الغربي لإخضاع العالم استند الى عقيدة التفوق العنصري والهوس بالحرب والبطش بالآخرين، ونستشهد على هذه الحقيقة بثلاثة مفكرين غربيين ، الأول هو المفكر الألماني يورغن تودنهوفر الذي قال( لا توجد حضارة في القرون الماضية أكثر عدوانية من الحضارة الغربية). والثاني هو صاموئيل هنتغتون الذي قال (لم يُخضع الغرب العالم بسبب تفوق أفكاره أو قيمه أو دينه، وانما تفوق في استخدام العنف المنظّم). والثالث هو المؤرخ الفرنسي الكس دي توكفيل الذي وصف معاملة الاوربيين لبقية الشعوب (كمعاملة الانسان للحيوان، يسخرهم لخدمته وحين لا يتمكن من اخضاعهم يقوم بسحقهم).
هذه العقيدة غير الأخلاقية الفاسدة جعلت تاريخ العالم المعاصر سلسلة من الصراعات العنيفة وحروب الإبادة والجرائم ضد الانسانية ، وكما قال الكاتب الروسي أليكساندر سولجنيتسين (صحيح أننا نعيش في عصر الكمبيوتر، لكننا ما نزال نتّبع قوانين العصر الحجري: فكل من يلوّح بالهراوة الأغلظ يكون هو صاحب الحق)
ومع ان الضحايا الأساسيين لسياسات الغرب هذه هم الشعوب غير الأوروبية من الهنود الحمر الى شعب فلسطين، إلاّ ان شعوب أوروبا (ذوي العيون الزرقاء والشعر الأشقر) لم يسلموا من هذه المجازر منذ حرب المائة عام الدينية بينهم (1520-1640) مرورا بحرب المائة عام الثانية في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ، بضمنها حروب نابليون، ثم الحربين العالميتين الأولى والثانية، وها نحن نشهد الأزمة الأوكرانية كإحدى مخرجات سياسات الغرب.
وللأسف، فبعد أكثر من خمسة قرون من ممارسة هذه السياسة التدميرية وملايين الضحايا لم يتعلم الغرب الدرس، بل يواصل ذات السياسات وبمبالغة مفرطة ويصر على تسمية وحشيته مدنيةً وحضارة، ويخادع نفسه بادعاء انه يحمل رسالة نشر الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان وانه حارب (يأجوج ومأجوج) في العراق ، وأنه ذهب الى كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق وليبيا وسورية وبنما ونيكاراغوا لتحرير شعوبها، مع أن شعوب العالم لم تطلب يوما من الغرب ان يأتي ليحررها .
سياسات الغرب مبنية على البطش بمن يعتقد الغرب أنه يختلف معه ، وبمن لا يوافق على سياساته (إن لم تكن معي فأنت ضدي) وآخر مثال على تلك السياسات التي لم تجلب سلماً ولا استقراراً هو موقف الغرب من روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط الشيوعية وحلف وارشو. فبدلا من بدء صفحة جديدة في العلاقات مع روسيا أساسها الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، عامل الغرب روسيا معاملة المهزوم في الحرب وأهانها وواصل اعتبارها كعدو محتمل وعزز عمليات تطويقها بحلف الناتو وبالعقوبات وبتحريض جيرانها عليها. وردت روسيا باستنفار قدراتها العسكرية والاقتصادية وبدأت محاولة تغيير موازنة القوة بالقوة!
إن الاعتماد على قانون القوة في العلاقات الدولية جلب الكوارث للإنسانية عندما كان الغرب هو القوة الوحيدة التي تتحكم بمصير العالم مستندة الى تفوقها العسكري والاقتصادي مع خوائها الأخلاقي ، والآن بدأت موازين القوة تتغير ، ولم يعد التفوق الغربي حاسما بعد تنامي وعي الشعوب وتمسكها بحقوقها . لقد فشل احتلال فيتنام وأفغانستان والعراق بسبب مقاومة أبناء هذه البلدان. كما دخل عنصر جديد في المعادلة، وهو امتلاك دول غير غربية للسلاح النووي، وراينا كيف ان الروس هددوا باستخدامه حتى قبل ان تفعل العقوبات الغربية فعلها في اقتصادهم. وعلى الغرب استيعاب هذا الدرس.
يقول عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون : (إن افول حضارة ما يبدأ في اليوم الذي لم تعد فيه قيمها تحظى بالاحترام في العالم وحينما تمتنع غالبية مواطنيها من تقديم تضحيات من أجلها). والغرب يقترب سريعا من هذا اليوم، وعلى صناع القرار فيه الاستماع الى رأي شعوبهم، وهي مثل جميع شعوب الأرض مسالمة بالفطرة، وأن ينبذوا سياسات الهيمنة والعدوان ويؤمنوا بسياسات السلام والتعاون. الامر الذي يدعو للتفاؤل أن كثيراً من النخب الفكرية الغربية استوعبت الدرس وبدأت تطالب السياسيين بالاعتذار عن سياسات الإبادة وتجارة العبيد ووقف سياسات التدخل العسكري المدمرة، ونشير ، كمثال أخير، الى مقال لأستاذ جامعي مرموق هو جورج غوس في عدد آذار/نيسان 2022 من مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية قال فيه إن نظريات التدخل الامريكي خلقت دولاً فاشلة واضرت بحقوق الانسان وباستقرار ورفاه دول الشرق الأوسط وامتدت آثارها السلبية الى الولايات المتحدة والعالم، ويجب التوقف عن هذه السياسات.
لقد آن الأوان ليعلم ساسة الغرب أن صنع السلام أضمن وأكثر استدامة من صنع الحرب، وان نسبة التكلفة الى الفائدة بينهما لا تقارن ، وأن انفاق سعر حاملة طائرات على التنمية في افريقيا أجدى وأنفع، وسيعوض افريقيا بعض ما سلبه الغرب منها في تجارة العبيد وسرقة ثرواتها خلال قرون.
اما بالنسبة لنا نحن العرب، فربما ،باستثناء الهنود الحمر الذين اباد الغرب 90% منهم، نحن أكثر الأمم تعرضا للظلم التاريخي من الغرب الذي احتل اغلب بلداننا وانتهك حقوق شعوبنا، وجروحنا منه لا زالت نازفة في فلسطين والعراق وسوريا وليبيا وأماكن أخرى كثيرة.
وفي هذه المرحلة التاريخية التي يشهد فيها العالم تغيرات جيو سياسية كبيرة ، وتصعد اقطاب وتهوي أقطاب، علينا أن نحول هذا الظلم التاريخي الواقع علينا الى طاقة بناء وتوحيد ليكون لنا مكانا بين الأمم.
ولو واصلنا كبت غضبنا على الظلم التاريخي الواقع علينا، فسيجد هذا الغضب المكبوت طريقه للتنفيس من خلال صراعات داخلية بيننا، كما حصل ويحصل منذ القرن الماضي على الأقل، والأخطر من ذلك فإن الحركات المتطرفة والمنظمات الإرهابية تستغل هذا الظلم التاريخي لتجنيد شبابنا في صفوفها وتحويل طاقات الأمة إلى غير اتجاهها الصحيح. القاعدة وداعش وأشباههما يجندون الشباب بدعوى رفع الظلم الواقع على الأمة وبالذات في فلسطين والعراق، ويحولون طاقة الشباب الى انتقام أعمى وإرهاب، ويعطون لسياسيي الغرب الذريعة لمواصلة استهداف الأمة تحت شعار (صراع الحضارات) وإن الإسلام هو التهديد الأول للحضارة الغربية.
الأمة قادرة على الرد على جرائم الإبادة التي ترتكب ضدها ليس بتطرف ورغبة جامحة في الانتقام أو بجرائم مقابلة، بل بعمل خلاق في جميع المجالات لنهضة الأمة، بضمنها قدرات الدفاع لردع الاعداء.
أمتنا بحاجة الى إطلاق كوامن الابداع في شبابها، والتحدي يخلق الابداع عندما يؤمن الشباب ان أمامه رسالة إعادة هيبة الأمة ورفع الظلم الواقع عليها وعلى مقدساتها. تجربة المانيا بعد الحرب العالمية الثانية جديرة بالنظر، فقد تداعى مفكروها حول السبيل لاستعادة هيبتها واراضيها ووحدتها، فقالوا لن نكرر تجربتنا بعد الحرب العالمية الأولى بأن نرد على العدوان بالعدوان، بل نستخدم الظلم الواقع علينا مهمازا لبناء أمتنا، وخلال أقل من ثلاثة عقود استعادت المانيا هيبتها وأراضيها، بل وأصبحت قائدة أوروبا.
لقد خسف الله الارض بعاد قوم هود لأنهم يبطشون بالناس بغير حق ويظلمونهم (وإذا بطشتم بطشتم جبارين/ الشعراء 130) ، فعندما يذل المنتصر خصمه فليتوقع ان الدنيا تدور، وأن الشعوب لا تصبر على ضيم، وأن الله قادر على نصر المظلوم والانتقام من الظالم.
والله المستعان