ليست حرباً بالوكالة بين روسيا وحلف الناتو! – بقلم الاستاذ حسن نافعة
الحرب المشتعلة الآن على الساحة الأوكرانية هي تعبير عن أزمة ربما تكون الأخطر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لم يسبق للقوتين النوويتين العظميين في العالم، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الروسي (الاتحاد السوفياتي سابقاً)، أن تواجهتا بشكل مباشر من قبل بمثل هذا المستوى من الحدة والتصعيد، بما في ذلك إبان الأزمات التي اندلعت في مرحلة الحرب الباردة، وهي كثيرة.
ففي الأزمات التي كانت تندلع في منطقة الجوار أو النفوذ المباشر للولايات المتحدة وللاتحاد السوفياتي، كأزمة برلين عام 1948 وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 على سبيل المثال، استخدم الطرفان سياسة حافة الهاوية كوسيلة لتحقيق أهدافهما، لكنهما كانا يحرصان في الوقت نفسه على تجنّب الصدام المباشر، وكانا قادرين في نهاية المطاف على التوصل إلى تسوية متوازنة تحقق لكل منهما بعضاً من أهدافه المتوخاة.
وفي الأزمات التي كانت تندلع في أماكن بعيدة عن حدودهما، لم يكن لدى أي منهما ما يحول دون خوض حرب بالوكالة، وهو ما حدث فعلاً في حرب فيتنام في الستينيات وفي حرب أفغانستان في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، لكنهما كانا يحرصان معاً ودائماً على تجنب المواجهة المباشرة، ويكتفي كل منهما بمساعدة ودعم الحليف-الوكيل عسكرياً وسياسياً.
أما في الأزمة المحتدمة حالياً على الساحة الأوكرانية، فالأمر مختلف تماماً، حيث لجأت روسيا إلى استخدام القوة المسلحة بكثافة، بل وذهبت إلى حدّ التهديد باستخدام سلاحها النووي إذا تطلب الأمر ذلك، ولم تكتف الولايات المتحدة وحلفاؤها بتقديم دعم للحليف الأوكراني بالسلاح والعتاد، كما جرت العادة، بل لجأوا في الوقت نفسه إلى فرض عقوبات اقتصادية ومالية شاملة على روسيا، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الحروب بالوكالة، حتى في أحلك لحظات الحرب الباردة. فما الذي يميّز الأزمة الأوكرانية المشتعلة حالياً عن غيرها من الأزمات السابقة؟ هل يتعلق الأمر فقط بالأسباب التي أدّت إليها، أم بالوسائل المستخدمة في إدارتها؟ أم بمآلاتها المحتملة؟ أم بكل هذه الأبعاد معاً؟
الحرب المشتعلة حالياً على الساحة الأوكرانية ليست في حقيقة أمرها حرباً بالوكالة، بل هي مواجهة مباشرة بين روسيا من ناحية، والولايات المتحدة وحلفائها من ناحية أخرى، وتدار بوسائل متباينة: القوة العسكرية في مواجهة القوة الاقتصادية. فالمطالب الروسية التي تسبّبت في تصعيد الأزمة لم تكن منذ البداية موجّهة إلى حكومة أوكرانيا الحالية، بقدر ما كانت موجهة مباشرة إلى الولايات المتحدة، وهي مطالب تدور حول: وقف تمدّد حلف الناتو ومنع توسّعه شرقاّ نحو الحدود الروسية، والدفع في اتجاه العودة به إلى ما قبل خطوط 1997، وفي أقل الحدود: رفض انضمام كل من جورجيا وأوكرانيا إلى هذا الحلف، واعتبار انضمامهما خطاً أحمر لا ينبغي تجاوزه.
ولا جدال في أنه كان في وسع الولايات المتحدة تجنّب تصعيد الأزمة وتحوّلها إلى صراع مسلح، من خلال إبداء الاستعداد للاستجابة ولو جزئياً للمطالب الروسية، وتقديم بعض الضمانات الأمنية المطلوبة، والتعهد بعدم نشر الصواريخ التابعة لحلف الناتو بالقرب من الحدود الروسية. غير أن الرفض الواضح لهذه المطالب، بدعوى أن أوكرانيا دولة ذات سيادة يحق لها تحديد سياستها الخارجية واختيار حلفائها، عكس في الوقت نفسه مدى إصرار الولايات المتحدة على مواصلة سياساتها القديمة الرامية إلى حصار روسيا ومنعها من استعادة مكانة الاتحاد السوفياتي السابق وموقعه في النظام الدولي، الأمر الذي تعاملت معه روسيا ليس فقط باعتباره ماسّاً بأمنها، بل ومهدّداً لوجودها ذاته. لذا، كانت المواجهة المباشرة بين الطرفين على الساحة الأوكرانية مسألة حتمية، وحرص كل طرف على أن يديرها بالوسائل التي يعتقد أنه يتمتع فيها بميزة نسبية!
حين قامت روسيا بحشد قوات عسكرية ضخمة على حدودها مع أوكرانيا، وأتبعت هذه الخطوة برفع درجة الاستعداد النووي، بدا واضحاً بما لا يدع أي مجال للشك أنها ليست فقط متمسكة بمطالبها، بل ومصمّمة أيضاً على تحقيقها، حتى لو تطلّب الأمر استخدام القوة المسلحة. وحين ردّت الولايات المتحدة على هذا التصعيد بالتهديد بفرض عقوبات اقتصادية ومالية غير مسبوقة على روسيا، وتقديم دعم مادي ومعنوي غير محدود لأوكرانيا، إن أقدمت روسيا على غزوها، بدا واضحاً بما لا يدع مجالاً للشك أيضاً أنها مصمّمة بدورها ليس فقط على منع روسيا من تحقيق مطالبها، بل وتحطيمها اقتصادياً إذا لزم الأمر.
كان يمكن النظر إلى هذا التصعيد المتبادل باعتباره ممارسة لسياسة حافة الهاوية القديمة، ومن ثم سرعان ما يفضي إلى انفراجة تنتهي بتسوية متوازنة ترضي الطرفين المتصارعين. غير أن إقدام روسيا على الاستخدام الفعلي للقوة المسلحة ضد أوكرانيا، وإقدام أميركا وحلفائها على الاستخدام الفعلي لسلاح العقوبات ضد روسيا، غيّرا قواعد الاشتباك القديمة، وأثبتا أننا إزاء مشهد غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية، سيكون له ما بعده حتماً.
ما زال الوقت مبكراً لاستكشاف التبعات المستقبلية كافة لهذا التصعيد المتبادل والخطير، ومع ذلك فسنحاول إلقاء الضوء على بعض أبعاد هذه التبعات من خلال مجموعة من الملاحظات، نجملها على النحو التالي:
الملاحظة الأولى: تتعلق بالأبعاد الجيوسياسية للمواجهة الدائرة حالياً؛ فالأمر يتعلق هنا بمواجهة كونية، طرفاها، من ناحية، قوة نووية هي الأضخم على المستوى الدولي، ممثلة في روسيا الاتحادية، وقوة اقتصادية ومالية، ممثلة في الولايات المتحدة وحلفائها من ناحية أخرى، هي الأضخم على المستوى الكوني، ما يعني أن تأثيرات هذه المواجهة لن تقتصر على طرفيها المباشرين، بل سوف تمتد تبعاتها إلى كل أنحاء المعمورة، وإن بدرجات مختلفة.
الملاحظة الثانية: تتعلق بمآلات المواجهة العسكرية المحتدمة حالياً على الساحة الأوكرانية. فرغم مضي ما يزيد على عشرين يوماً على اندلاعها، فإنها لم تحسم بعد. صحيح أن المواجهة بالسلاح لا تزال مقتصرة على القوات المسلحة الروسية، من ناحية، والقوات المسلحة الأوكرانية، من ناحية أخرى، لكن احتمال تمدّد شرارة العمليات العسكرية وانتقالها إلى دول أخرى، أعضاء في حلف الناتو، ما زال قائماً. صحيح أن احتمال المواجهة النووية ما زال مستبعداً، لأسباب تتعلق بموازين الردع النووي القائمة حالياً، لكن انفلات الأمور بسبب أخطاء في الحسابات يظل أمراً وارداً في جميع الأحوال. ولأن المواجهة العسكرية المحتدمة حالياً، خاصة إذا ظلت محصورة بين طرفيها الروسي والأوكراني، تبدو غير متكافئة، فمن الطبيعي أن ترجح كفة روسيا فيها.
الملاحظة الثالثة: تتعلق بمآلات المواجهة الاقتصادية التي قررت الولايات المتحدة وحلفاؤها خوضها، بفرض عقوبات شاملة على روسيا. صحيح أنها عقوبات تستهدف روسيا وحدها، لكن يتوقع أن تمتد تأثيراتها المحتملة لتشمل الاقتصاد العالمي ككل، وخاصة اقتصادات الدول النامية التي بدأت تعاني بالفعل من ارتفاع أسعار الطاقة والحبوب، ما يعني احتمال عدم قدرة الاقتصاد العالمي على تحمّل عواقبها لفترة طويلة. وإذا كانت الدول التي فرضت هذه العقوبات تراهن على احتمال أن تؤدي إلى حدوث انهيار سريع للاقتصاد الروسي، فإن نجاح هذا الاحتمال سيتوقف، من ناحية، على موقف دول أخرى من هذه العقوبات، وخاصة الصين وربما الهند أيضاً، كما سيتوقف، من ناحية أخرى، على قدرة الجيش الأوكراني والمقاومة الشعبية على عرقلة العمليات العسكرية الروسية، وتحويل الحرب الدائرة على ساحتها إلى حرب استنزاف طويلة المدى.
الملاحظة الرابعة: تتعلق بالموقف الحقيقي للصين من الأزمة ككل، وليس فقط من مسألة العقوبات المفروضة على روسيا. فقد تردّد أن الصين كانت على علم مسبق بالنيّات الروسية، وأن بوتين حرص على التنسيق مع الصين والحصول على ضوء أخضر منها قبل أن يتخذ قراره بشن العمليات العسكرية. وأيّاً كان الأمر، يلاحظ أن موقف الصين ما زال يتّسم حتى الآن بالحذر الشديد، لكن ليس من المستبعد أن يتطور في المستقبل، وخاصة إذا تبيّن أن الكفة قد تميل لصالح المعسكر الغربي. فإذا نجحت الولايات المتحدة وحلفاؤها في تحويل الحرب المشتعلة حالياً في أوكرانيا إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، يتوقع أن تلقي الصين بثقلها لمنع الاقتصاد الروسي من الانهيار، وبالتالي الحؤول دون إلحاق الهزيمة بروسيا في هذه المواجهة. فالصين تدرك يقيناً أنها ستكون الهدف التالي للغرب إذا نجح الأخير في تركيع روسيا.
أودّ في الختام لفت الانتباه إلى حقيقة تبدو لي بالغة الدلالة، وهي أن روسيا تتجلى في الأزمة الراهنة كقوة صاعدة، في الوقت الذي تظهر فيه الولايات المتحدة كقوة هابطة أو متراجعة. ويكفي أن نتذكر هنا أن روسيا كانت قد أجبرت على الصمت في منتصف التسعينيات حين أقدم حلف الناتو على استخدام القوة المسلحة ضد حليفتها صربيا، بينما هي تبادر بنفسها اليوم إلى استخدام القوة المسلحة ضد دولة أوروبية حليفة للولايات المتحدة، لندرك هذه الحقيقة ولنعي أن الزمن تغير. فالطرف الذي يجرؤ على استخدام القوة العسكرية في مواجهة طرف لا يملك سوى وسائل أخرى للرد، يصبح الأقدر على الإمساك بزمام المبادرة والتأثير في مسار الأزمة. وإذا استطاعت روسيا حسم جولة الصراع العسكرية لصالحها خلال فترة زمنية معقولة، وهو ليس بالأمر المستبعد، فلن يكون بمقدور الطرف المستخدم للعقوبات الاقتصادية حسم الجولة السياسية للصراع لصالحه. لذا، يتوقع، حين تسكت المدافع، أن تبدأ جولة مفاوضات سياسية لن يكون هدفها مقتصراً على مجرد البحث عن وسيلة تضمن حياد أوكرانيا ومنعها من الانضمام إلى حلف الناتو، بل سيتعدّاه إلى البحث عن كيفية الانتقال إلى نظام دولي جديد أكثر توازناً، هو الآن قيد التشكّل!