صحافة ورأي

تونس فتحت باب القلب على مصراعيه بعد أن أوصدته بإحكام شديد (الجزء الثاني)

بقلم د. أيمن أبو الشعر

• تونس الأسطورية شعرها من أوراق الزيتون والنرجس تُحوِّل كلَّ من تتلاقى عيناه بعينيها إلى عاشق وليس إلى حجر كميدوزا

دخلت في حومة الحلم والتقديرات وأنا في طريقي إلى مطار موسكو، ثم تابعتها بألق وضاء وأنا في الجو نحو إستانبول… كل شيء كان ورديا جميلا ولكن…

أولى المطبات
ذكرني مطار استانبول بحادثة قديمة جرت معي أقصها باختصار شديد: كنت مدعوا إلى سلطنة عمان، وكان توقيت الإقلاع عند منتصف الليل، فاختلط الأمر، وإذ بي أتيت عمليا بعد 24 ساعة حسب البطاقة، وكثيرون غيري وقعوا في فخ التوقيت ، حيث كان المقصود قبل 24 ساعة، المهم أنني اضطررت للسفر على متن طائرة أخرى بعد ساعات عديدة، وحين وصلت إلى الإمارات لم أجد – حقا- أحدا يتحدث العربية، وقيل لي أن عليَّ أن أعود أدراجي إلى موسكو، ومن حسن الحظ أنني حين اتصلت بمكتب وزير الإعلام “السيد عبد العزيز الروّاس” آنذاك كان عمليا جدا، حيث تم الاتصال بالمطار وأمَّنوا وصولي إلى عمانُ، لم أدخل اختصارا في بعض التفاصيل المثيرة…
في هذه الرحلة وصلت إلى إستانبول، وهو مطار ضخم جدا، كان الركاب يتدفقون في الممرات وكنت أسير معهم، ولاحظت أنهم بدأوا يخرجون من المطار… يا إلهي ماذا لو تابعت معهم وغدوت في الشارع خارج المطار؟؟؟؟ كيف سأعود وكيف سأشرح، لم ألتق طيلة هذه الفترة – قرابة نصف ساعة- بموظف واحد في المطار يتحدث لغة غير اللغة التركية، ثم استوقفت عامل التنظيفات وقلت له “الترانزيت” وهي كلمة معروفة بكل اللغات، عندها بات يشرح لي باللغة التركية مع إشارات يده أن عليَّ أن أعود في هذا الممر حتى آخره تقريبا، وهناك قد أجد ضالتي المفقودة كحبيبة نزار قباني في قارئة الفنجان، خيط دخان! المهم وصلت بعد اجتياز ممرات وسلالم وانعطافات ذكرتني بعبور هاني بعل القرطاجي التونسي لجبال الألب، وصلت إلى مكان الدخول إلى الطائرة التي ستحلّق بي إلى تونس، كان ذلك قبل دقائق من إغلاق القائمة والباب معا! لذا نصيحتي أن تنتبهوا جيدا في مطار إستانبول إلى لوحة الإعلانات التي هي بحد ذاتها للأسف أشبه ما تكون بمتاهات “أين الطريق” في المجلات الترفيهية.

الانطلاق نحو الألق
كان الدكتور وليد الماجري في انتظاري، فقد وصلت عند منتصف الليل، شاب وسيم، تبين لي خلال دقائق أنه ذكي ومثقف، ولا غرو فهو الذي أنشأ مؤسسة “الكتيبة” التي تصدر بثلاث لغات: العربية والفرنسية والإنكليزية، وهو مديرها العام، وخلال بضع دقائق من الحوار في السيارة شعرت أنه إنسان يشبه روحي، ويتمثل أفكاري تماما، حتى أنني تقصدت طرح بعض الأفكار والمواضيع الإشكالية علِّيَ أجد اختلافا في أمر ما، لكني حقا لم أعثر سوى على أصداء روحي وقناعاتي…
ودّعني بعد أن رتب أموري في الفندق كي أرتاح، واتفقنا أن يبدأ برنامجنا في وقت متأخر نسبيا من صباح اليوم التالي. حيث كان لقاؤنا على مأدبة غذاء حرص فيها على أن يقدم لي الأطباق التونسية الشعبية المميزة وخاصة المأكولات البحرية، التي ذكرتني حقا بدعوة مماثلة تقريبا في اليمن، لكن هذه الجلسة تكشفت عن أناس رائعين ومبدعين حقا، فقد كان في هذه المأدبة إلى جانب الدكتور وليد والدكتورة يسرى، الشاعر عادل المعيزي الذي أدهشني بحواراته وقصائده المميزة، وسلمى الجلاصي رئيسة تحرير صحيفة الشعب واسعة الانتشار، وهي إلى جانب ذلك باحثة في المجالين الاجتماعي والإبداعي، موغلة في أعماق اختصاصها، ثم التحق بنا الشاعر الجميل أحمد شاكر مدير بيت الشعر التونسي… حسمت هذه الجلسة بعد أقل من ساعة واحدة من توجهات قلبي نحو مؤشر بوصلتهم التونسية الأصيلة، أدركت أن هؤلاء ليسوا مبدعين وحسب، بل هم في منتهى اللطف والود والتألق. إنهم يتمثلون الشعر الراقي بسلوكهم اليومي، وهالني أن الإنسان الأكاديمي الدكتور وليد الماجري كان يكتب الشعر أيضا، طبعا هو لا يطرح نفسه كشاعر في الساحة الإبداعية، ولكن كونه كان يكتب الشعر مؤشر على أنه ذواقة حقيقي، وكانت الدكتورة يسرى تتابع الحوارات وإلقاء المقاطع الشعرية باهتمام كبير، حتى لتكاد تتهجى بروحها ما يعبر مسامعها نحو القلب، وكما هي عادتي في دمشق وموسكو واصلنا جلسة التألق من الغداء إلى العشاء بجو احتله الشعر تماما حتى غدونا أسرى لأنبل وأشهى المشاعر مستسلمين للبسالة في حضرة جبروت الشعر.

الطبيعة تقول يا هلا
في الأيام التالية طفنا في مناطق متعددة تعتبر واجهة تونس الحضارية والسياحية الجمالية، والتقطنا العديد من الصور التذكارية، وخاصة في منطقة بوسعيد المطلة من تلها الذي يبدو كنهد أسطوري للطبيعة على البحر، طالما الطبيعة أنثى فبو سعيد نهدها، وبدا لي أن تونس في غابر الأزمان كانت حورية خرجت من البحر الأبيض المتوسط، واضطجعت في هذه البقة الجغرافية تتشمس، فَراقَها المكان والجو والخضرة، فاستوطنت تلك البقة التي غدت تونس.
كان الطقس نموذجيا في هذا الوقت الربيعي، وبعد جولات ممتعة عدنا إلى الفندق الوديع “ماجيستيك” حيث تكررت جلساتنا الحوارية الممتعة في تراسه، وهناك توسعت اللقاءات بما في ذلك مع الناشر حبيب الزغبي الذي كان ودودا وعمليا، واتفقنا من حيث المبدأ على إصدار الأعمال الشعرية الكاملة في جزأين، إلى جانب أعمال أخرى، كل شيء كان رائعا، وكأنما تم إعداد كل ذلك بحرفية مسبقا، لكن الجوهر الذي فاجأني وأسعدني هو أن لأيمن فعلا حضورا جميلا ومتأصلا في تونس، فما السر إذن؟

الأمسية الأولى
أوضح لي الدكتور وليد أن اللقاء في هذه الأمسية، وكذلك في سوسة سيكون مع النخبة الثقافية، لتكون كمنصة للقاءات قادمة يمكن أن تحمل طابعا جماهيريا، موضحا أن الذين يريدون اللقاء مع أيمن كثيرون لكن الظروف أيضا فرضت هذا الاختيار، وأوضح أن النوع في اللقاءات الأولى هو المهم، وبالفعل ضمت الأمسية الأولى في فضاء القصر السعيد نخبة رائعة من المثقفين، في حدود ستين أو سبعين متذوقا، وأدهشني أن بعض الحضور، كان يناقش ويقرأ مقاطع عديدة من بعض القصائد، وتحدث بعضهم عن الدور الذي لعبته هذه القصائد إبان الحراك الطلابي، وحتى التظاهرات إبان المراحل السابقة، حتى أنني اقترحت على أحدهم أن يرافقني في الأمسيات لكي يردني إن نسيت! وتضمنت الحوارات والنقاشات الكثير من المسائل السياسية، بما في ذلك الغزو الأمريكي الغادر إلى العراق، والأوضاع في غزة، وسبل النضال في هذه الظروف الصعبة المصيرية، وقد تألق الفنان ياسر جرادي بعزفه وغنائه أيما تألق في هذه الأمسية.
الأمسية الثانية
انطلقنا في اليوم التالي إلى مدينة سوسة الساحلية الجميلة حيث كان اللقاء مكثفا وجميلا جدا مع ممثلي الطلبة الجامعيين والمثقفين، وقد ألقيت بعض القصائد لكن الذي شدني فعلا هو مستوى الحوارات ونوعية الأسئلة التي تدل على ثقافة جيدة، ولفت نظري أن معظم الحضور من الجنس الانثوي، وجميع الأسئلة حقا من الجنسين كانت راقية جدا ونوعية جدا، والأهم أنهم كانوا يتلقفون الإجابات ويسجلونها، ويستفسرون بجدية إن صعب عليهم هذا المصطلح أو ذاك…

لقاءات نوعية
خلال هذه الزيارة جرت لقاءات نوعية بعضها سياسي ودي مع ممثلي حزب الوطد الاشتراكي، وهو فصيل بدا لي أنه يساري متطور ثوري ناضج، وكانت جلسة متوقدة بالمشاعر الجميلة الأصيلة، حيث نقلوا لي صورة حميمية عن ترقب الكثيرين للقاء القادم، ووعدت أن أحاول بكل جهدي أن أزور تونس مرة أخرى، وربما قبيل نهاية هذا العام أو مطلع العام القادم.
ثم جرى لقاء نوعي عملي مع المخرج المسرحي أيوب الجوادي، واتفقنا من حيث المبدأ على إخراج مسرحيتي رجل الثلج، على أن نناقش بعض تفاصيل ” تونستها”، وإجراء بعض التعديلات الطفيفة التي أطمح من خلالها أن أوسع مدلولها للإشارة إلى النازية الجديدة، وقد تكون مناسبة للقدوم إلى تونس وحضور افتتاحها… كما جرى لقاء جميل جدا مع الفنان المبدع المطرب الشعبي لطفي بوشناق، ورغم أن الوقت المحدد في برنامجي للقاء هو نصف ساعة، إلا أن اللقاء استمر قرابة ساعتين، ليس لأني تحدثت كثيرا بل لأنني استمعت واستمتعت كثيرا، فللفنان لطفي بوشناق حضور آسر يحتل مشاعرك دون أن تدري، وعليه ينطبق التعبير الشعبي ” “يدخل قلبك بودٍّ دون استئذان” وألقيت في هذا اللقاء مقاطع من قصيدة كتبتها إبان الغزو الأمريكي للعراق، والتي ستكون رئيسية في زيارتي القادمة …
وفي كل هذا وذاك كان هناك ملاحان يقودان سفينة هذه الزيارة بكل أناة ومهارة تاركين للدلافين أن تتقافز حول مركبنا كأنها شتلات من الزنبق، وللشمس في الأفق أن تؤجل رحلتها نحو النصف الآخر من الكرة الأرضية… نعم إنهما د. وليد، ود. يسرى! فقد أزف الترحل وشعرت بغصة في الروح، لقد أسرتني تونس، أسرني هذا الثنائي العشقي الأسطوري العجيب، وأولئك الأصدقاء الجميلين المبدعين عادل وسلمى وشاكر وياسر وأيوب ولطفي بوشناق الرائع وزملاء الكتيبة والآخرون… تحية من القلب يا تونس، نعم أنت واحدة من الأعاجيب التي تحتل من تنظر إليه، لكنَّ شعرها ليس من الأفاعي بل من أوراق الزيتون والنرجس، وهي لا تحوله بنظراتها إلى حجر كما تفعل “ميدوزا” بل تحوله عبر إشعاعات نظراتها السحرية إلى عاشق لا بد أن يعود إليها من جديد، مهما طال الزمن…
تحية لكل من احتل قلبي في تونس إبان هذه الزيارة، ولمن سيحتله في زيارتي القادمة التي سأسعى أن تتحقق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى