لا يختلف اثنان على تعقيد وتشابك وصعوبة الوضع السوري الراهن.
ولا جدال حول المسار الصعب الذي خاضته الأطراف جميعا دون استثناء للوصول إلى الجولة السادسة لاجتماع اللجنة الدستورية المصغرة الذي تجري وقائعه أثناء كتابة هذه السطور.
لكن الأصعب هو حقيقة أن الطريق، ومع كل المعاناة والآلام والمآسي التي مر ويمر بها الشعب السوري، لا زال في بدايته.
ومع كل آمالنا بنجاح هذه الجولة، إلا أنها في نهاية المطاف جولة من جولات، وخطوة من خطوات يعتزم من خلالها السوريون أنفسهم الجلوس حول الطاولة وتقرير مصيرهم، والتفاوض بشأن رؤاهم المختلفة لمستقبل العيش المشترك، والحياة الكريمة لكل مواطن سوري على أرض سورية في دولة سورية جديدة، تضمد جراح الماضي، وتفتح آفاق المستقبل.
وكان المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، وفي إطار جهوده الساعية لتحقيق اختراق في هذه الجولة لاجتماع اللجنة الدستورية السورية، قد عقد لقاء مع وزير الخارجية المصري، سامح شكري، الذي أعرب عن “دعم مصر للمساعي التي يبذلها المبعوث الأممي لحلحلة الجمود الراهن، وشدد على “ضرورة أن تكفل أي تسوية سياسية تثبيت ركائز الاستقرار بمنأى عن أي تجاذبات لا تصبّ في صالح الشعب السوري”.
كذلك التقى بيدرسون الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، وناقش معه الأزمة السورية “من مختلف أبعادها”، حيث أكد أبو الغيط على “ضرورة الالتفات إلى خطورة تدهور الأوضاع الإنسانية للسوريين”، مشددا على أن “الحل السياسي يمثّل المخرج الوحيد من الأزمة”، وأشار إلى أن “استمرار التدخلات الأجنبية على الأراضي السورية يعقد الأزمة ويطيل أمدها”، مشددا على أن “مختلف الأطراف في حاجة إلى مراجعة مواقفها من أجل إيجاد مخرج للأزمة”.
ويأتي الدعم المصري ودعم جامعة الدول العربية في توقيته تماماً، لمساعدة السوريين وتخفيف حدة التوتر، وتهيئة الأجواء لاجتماع اللجنة الدستورية، خاصة على خلفية ما صدر مؤخرا عن السفير الإسرائيلي لدى روسيا، ألكسندر بن تسفي، حول ما أسماه اتفاقا مع روسيا والولايات المتحدة على عقد لقاء على مستوى رؤساء مجالس الأمن لمناقشة الوضع في سوريا وإيران.
حقاً أن السفير لم يفصح عن أية تفاصيل، إلا أن تدخل الإسرائيليين في شؤون سوريا وإيران هو بمثابة سكب مزيد من الزيت على النيران المشتعلة. ففي الوقت الذي تمثل فيه السياسات الاستيطانية الإسرائيلية واحتلال الجولان والاعتداءات المتكررة على الأراضي السورية وعدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني أحد أهم العوامل في زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، يخرج علينا السيد تسفي ليطرح “فكرة لقاء لمناقشة الوضع في سوريا وإيران”! أعتقد أن آخر من يمكنه الحديث عن أي دور بشأن أي قضايا إنسانية حول العالم هي إسرائيل.
من جانبها، تلعب روسيا دائماً دور الوسيط لتهدئة الأوضاع، لا في سوريا فحسب، وإنما في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي بشكل عام. حيث تقوم الدولة الروسية بمهمة حساسة وشديدة التعقيد، نظراً للوضع المتشابك، وغير الطبيعي في العلاقات بين الدول، وكذلك التناقضات السياسية والاجتماعية بين المكونات المختلفة، حتى في داخل الإقليم الواحد والدولة الواحدة، والتي يلعب فيها العامل الديني والطائفي والعرقي والترسبات التاريخية والثقافية دورا محورياً، في ظل أجواء عدائية وتيارات من التعصّب تغذيها أطراف، كثيرا ما تحمل أجندات خارجية، وتعمل لصالح أجهزة بعينها، تسعى لزعزعة استقرار المنطقة لصالح أهداف بعضها إقليمي والآخر دولي يتخطى حدود سوريا.
يقف ذلك كله حجر عثرة في طريق التوصل إلى تفاهمات تأخذ بعين الاعتبار المصلحة العليا للشعب السوري، فنحن نرى بأم أعيننا كيف يصل التعصّب الحاد ببعض الشخصيات السياسية والإعلامية إلى درجة العمى السياسي، فيمنعهم من رؤية الضرورة الوجودية لتطبيع العلاقات بين شعوب المنطقة التي تقف اليوم أمام سؤال “أن تكون أو لا تكون”. على سبيل المثال لا الحصر، تحاول روسيا تجاوز الغوص في تفاصيل الاتهامات المتبادلة بين بعض الأطراف لإيران بـ “التشييع”، ولتركيا بـ “العثمنة” من أجل حلحلة الأزمة السورية بعيداً عن التجاذبات الداخلية لأصحاب الأجندات “الإيرانية” أو “التركية” في داخل وعلى حدود الدولة السورية. تحاول روسيا أن تبني وتراكم على ما تم التوصل إليه واقعياً على الأرض، بعدما أثبتت المفاوضات والاتصالات المكوكية، حتى في ظل أصعب الظروف، أهميتها في التوصل إلى حلول ولو جزئية، وضمانات ولو مؤقتة، يمكن البناء عليها في الوقت الراهن.
لقد كتبت فيما سبق انتقادات تختلف في حدتها لممارسات القيادة في دمشق، والتي اعتبرتها تعرقل التوافق بين جميع السوريين، لكنني في الوقت نفسه أكّدت ولا زلت أؤكد على حقيقة أن السلطة الحالية في دمشق هي القوة الحقيقية المنظمة على الأرض، والتي تتمتع بتأييد ما لا يقل عن 5 مليون سوري، سيبقون متمسكين بها، خاصة بعد المواقف التي تطالب بتصفية النظام، وما نستمع إليه اليوم من أصوات تدعو الى الحرب وتؤجج الفتن التي تهدف إلى تسوية الدولة السورية بالأرض، ثم محاولة “إعادة بنائها من جديد”!
لكن أحداً لن يسمح بذلك، وإذا عادت عجلة الحرب في الدوران، فستحرق الأخضر واليابس، ولن يكون هناك سوى الهزيمة لجميع الأطراف. ففي الأزمة السورية، لا يوجد سوى مخرج واحد هو قرار مجلس الأمن 2254، الذي يجب على الجميع الالتفاف حوله وحمايته، على جانبي المعادلة، وأي أوهام أخرى لأي نصر أو سحق أو تصفية أو إزاحة أو تهميش لأي طرف لا تعدو كونها أوهام ثبت بالدليل القاطع مدى ضلالها.
وبينما تتجه جميع أنظارنا الآن، إلى جنيف، حيث تجتمع اللجنة الدستورية، بدعم ورعاية من هيئة الأمم المتحدة، ومجموعة أستانة، تصبح الكرة في يد السوريين وحدهم، نظاماً ومعارضةً ومجتمعاً مدنياً. لهذا يتعيّن على المجتمعين أن يدركوا حجم المسؤولية الخطيرة التي يحملونها، وأن يضعوا تكامل الأراضي السورية، وسيادة الدولة السورية على كامل التراب السوري، نصب أعينهم، وأن يأخذوا بعين الاعتبار أن مؤسسات الدولة حاضرة وموجودة، والمطلوب هو إيجاد صيغ كي يتشارك بها الجميع، وفقاً لما جاء في القرار 2254، حتى يتم فكّ الحصار الاقتصادي على البلاد، وإسقاط العقوبات الجائرة، لتبدأ الدولة السورية في مرحلة يساهم فيها الجميع قدر استطاعته في تعافي الوضع الاقتصادي، وإعادة بناء سوريا الحبيبة.