
“نعم لقد انتصرتم على أعتى جيوش الأرض المدججة بأشد الأسلحة فتكاً، فامضوا بدربكم الذي اخترتم، وبذات العزم والإرادة والتصميم، فأمثالكم لا يُهزمون، ولمَن يساوره أدنى شك، فلينظر إلى طوفان عودتكم بأقدام حافية دامية إلى ركام شمال غزة العصيّ على الانكسار والانهزام. هل هناك شعب بهذه المواصفات، هل هناك أخلاق وقِيم إنسانية ما زالت موجودة فوق أرض المعمورة كهذه، هل هناك عمل صالح وتكافل وتعاضد وسلوك إنساني حتى مع الأسرى من الأعداء كما في غزة. لقد أعييتم يا أهل غزة كافة الأجيال من بعدكم بسلوككم الراقي، لقد علّمتم البشرية أسمى معاني الإنسانية، لقد أحييتم في العالم مفردات طواها النسيان عن الأصالة والكرامة والعزة والصبر والصمود والقدرة على التحمّل والتشبّث بالأرض وعشق الوطن والتضحية…فجزاكم الله عنّا كلّ خير”
عندما نظم الشاعر أبو تمام مطلع قصيدته “السيف أصدق أنباء من الكتب، في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب. بيض الصفائح لا سود الصحائف في، متونهنّ جلاء الشكّ والرّيب” بعد فتح الخليفة العباسي “المعتصم” لعمّورية مسقط رأس الإمبراطور الروماني “تيوفل” يوم 31/7/838 السادس من رمضان 223 هجري، استجابة لاستغاثة إحدى حرائر الهاشميين المسلمات الأسيرات، حين بلغه صرختها “وامعتصماه” فرد عليها من فوره “لبيكِ.. لبيكِ”، ونهض من ساعته وأمر بالنفير لحرب الروم، وجهز جيشاً لم يجهزه خليفة قبله.. لم يكن أبو تمام يعلم شيئاً عن غزة هاشم، وأنه سيأتي زمان تتقطّع فيه الأحبال الصوتية، وتجف فيه الحناجر من كثرة صرخات حفيدات تلك الهاشمية، ولا من مُجيب أو مُجير، سوى صدى صرخاتهن وأطفالهن ومَن يُرافقهن من مسنّين طيلة 471 يوماً.. كما لم يكن لا هو ولا ممدوحِه “المعتصم” يخطر ببالهما أنه سيأتي حين من الدهر يُصنّع فيه الأعداء فرقاً ممَّن يسمّونهم “مسلمين” لا يُدركون المعنى المقصود بكلمة السيف كحدّ فاصل بين الحقّ والباطل، بل ولا يؤدّون حق السيف كما حدده الرسول الكريم حينما أعطاه للصحابي الجليل أبو دجانة مشترطاً عليه: “أن لا تقتل به مسلماً ولا تفرّ به عن كافر”، بل ومتجاهلين أمر الله في التنزيل الحكيم في أول آية ذُكر فيها “القتال” إذ قال: “وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يُحبّ المعتدين” ـ البقرة 190 ـ فأوغلوا في دماء المسلمين والمسالمين، في سبيل كسب رضى أسيادهم وداعميهم ومُدرّبيهم، رافعين شعار “جئناكم بالذبح”، مستندين إلى بشر أمثالهم من مجتهدي التراث، الذين أفتى بعضهم بنسخ هذه الآية الكريمة الناظمة بما ورد لاحقاً في سورة “براءة”، لكنهم وحتى القائلون بنسخها أجمعوا على حصر قتال المسلمين “بقتال مُن قاتلهم، والكفّ عمّن كفّ عنهم”…وهنا مربط الفرس وبيت القصيد، إن مثل هذه االعقلية يبدو أنها تأخذ من الأمور قشورها في الكثير من الأحيان، وأنها تشرّبت بالكثير من مثل هذه الأفكار، ما أدى إلى تبنيها قيماً ومبادئ خاصة بمتحجّري العقول، الماضويّون الذين لا يؤمنون إلا بما آمن به آباؤهم وأجداهم الأولون، فهو عندهم الصحيح وغير ذلك لا صحة له في الواقع. هل نتكلم هنا عن عقلية مغيبة! ربما، وهل نتصور نفسيات معقدة أو ساذجة لتلك الدرجة! والجواب أيضاً ربما، ويبدو أننا نحتاج الكثير من الدراسات في هذا الصدد لنعرف الأسباب الحقيقية والدوافع وراء ما آلت إليه حال الأمة التي هجرت كتاب الله الذي هدف لحياة سعيدة للناس كافة، ولتعميم الأمن والسلام على البشرية جمعاء، بل واتخذوا من دون الله أولياء، “ومَن أصدق من الله حديثاً”، “وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وكان أن انطبق عليهم قوله جلّ في علاه: “مثل الذين اتخذوا من دون أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، لو كانوا يعلمون”
يا أهلنا في غزة الغزة
“ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”، “وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، هنيئاً لكم بما صبرتم، صبراً يفوق الوصف وتعجز عنه كافة المفردات بشتى الألسنة واللهجات، فقد كنتم خير رسول لخير رسالة.. قالوا، وقالوا.. لكنكم مضيتم بما أنتم أهل له، وترفعتم عن القيل والقال، واعتصمتم بقول جدّكم الهاشمي مَن تحملون بفخر اسمه: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ – شدة وضيق معيشة – حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ”. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: “بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”، وجسّدتم خير تجسيد قوله تعالى في سورة آل عمران: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)”. هنيئاً لكم بمفازتكم بما صبرتم وبما عملتم “ونعم أجر العاملين”. لا نبالغ إن قلنا أنكم كنتم قرآناً يمشي على الأرض، أعدتم للإسلام الحنيف أسمى معانيه، وأعدتم لمكارم الأخلاق ألقها في زمن تسيّدت فيها الرذائل وتكالبت فيها عليكم الأمم، وشاعت الفتن، وأضحت فيها الأمة كزبد البحر، وغدا المؤمن كالقابض على الجمر، فأذهلتم العدو قبل الصديق، وأصبحتم منارة صدق ووفاء ووفداء يُشار لها بالبنان، ويحار معكم البغاة والفجرة المجرمون.
نعم لقد انتصرتم على أعتى جيوش الأرض المدججة بأشد الأسلحة فتكاً، فامضوا بدربكم الذي اخترتم، وبذات العزم والإرادة والتصميم، فأمثالكم لا يُهزمون، ولمَن يساوره أدنى شك، فلينظر إلى طوفان عودتكم بأقدام حافية دامية إلى ركام شمال غزة العصيّ على الانكسار والانهزام، كيف لمسنّ محني الظهر يتوكأ على عصاه يعدو مسابقاً الفتية أن يُهزم؟ كيف لشاب يحمل والده على ظهره ويهرول به مسابقاً الريح أن يُهزم؟ كيف لعجوز تغزو وجهها تجاعيد النكبة وشظف حياة اللجوء تُدفع على كرسي متحرّك منشدة “شدّو بعضكم يا أهل فلسطين شدّوا بعضكم”، وتُطلق بكلّ جوارحها وما اختلجت به نفسها الأبية من عزة وأنفة لحظة دخولها شمال غزة زغرودة مُدويّة تُردّد صداها الأرض والسماء، وتهتف فرحة: “يا حلالي يا مالي..بدّي أرجع عداري” أن تُهزم؟ كيف لطفلة حافية تحمل اختها الطفلة الأصغر كأم رؤوم لمسافات طويلة دون كلل أن تُهزم؟ كيف لجموع هادرة كطوفان يفوق جموع الحج الأكبر ويوم “عرفة” يصدحون بصوت جهوريّ: “الله أكبر.. لبيك اللهم لبيك” أن تُهزم؟ ثم كيف لشباب ينشدون بصوت واحد: “تربّينا على حبّ البلاد. بنحبّها طول وعرض.. أمّي بتحب الأرض.. مهما كبرنا ما نسينا، كيف سرقوا بيوتنا، كيف كسروا قلوبنا، كيف طردوا جدودنا”؟ كيف.. وكيف؟ هل هناك شعب بهذه المواصفات، هل هناك أخلاق وقِيم إنسانية ما زالت موجودة فوق أرض المعمورة كهذه، هل هناك عمل صالح وتكافل وتعاضد وسلوك إنساني حتى مع الأسرى من الأعداء كما في غزة…
لقد أعييتم يا أهل غزة كافة الأجيال من بعدكم بسلوككم الراقي، لقد علّمتم البشرية أسمى معاني الإنسانية، لقد أحييتم في العالم مفردات طواها النسيان عن الأصالة والكرامة والعزة والصبر والصمود والقدرة على التحمّل والتشبّث بالأرض وعشق الوطن والتضحية…فجزاكم الله عنّا كلّ خير.