ثقافة ومجتمع

آن الأوان للعرب أن يتقاربوا – بقلم الكاتب والمحلل السياسي رامي الشاعر

 

قرر الاتحاد الأوروبي، 6 مارس الجاري، منع الفرسان والخيول من روسيا وبيلاروس من المشاركة في المباريات التي ينظمها الاتحاد الدولي للفروسية FEI، حتى إشعار آخر.
لقد مارست رياضة القفز والفروسية طوال حياتي، ودائماً ما اعتبرت الخيول شريكاً مخلصاً في تلك الرياضة النبيلة، وكذلك في الحياة. وليس من قبيل الصدفة أن تكون الخيول هي الحيوان الوحيد الذي يشارك في الأولمبياد بصفة شخصية اعتبارية، بمعنى أن الخيول الرياضية “تحمل” جوازات سفر دولية محدد فيها الاسم والعمر والفصيلة والدولة التي تنتمي إليها، وكذلك المشاركات الأولمبية والمباريات الدولية شأنها في ذلك شأن الفارس الذي يمتطيها.

اليوم، وبعد قرار الاتحاد الأوروبي، لا زال بإمكاني المشاركة شخصياً في المباريات الدولية باستخدام جواز سفري الفلسطيني، أما حصاني الروسي، الذي ينتمي إلى فصيلة “بدينوف”، ويحمل لقب “ريزيستور”، لم يعد بإمكانه السفر معي، أو المشاركة في أي فعاليات دولية. أحاول أن أستوعب القرار، خاصة بعد قرار الاتحاد الدولي للقطط FIFE مشاركة القطط من روسيا في المعارض الدولية، حتى أشرحه لرفيقي العزيز “ريزيستور”، دون أن أصل لمنطق يقبله العقل لمثل هذا القرار.
تندمج الآن جميع وسائل الإعلام الغربية، ومعها بطبيعة الحال قسط من القنوات العربية، التي تتلقى مادتها الإعلامية من المخابرات المركزية الأمريكية، في سيمفونية هائلة عنوانها الأساسي هو “العداء لروسيا”. وكل ما يقولونه بشأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وما يطلقون عليه “النظام الروسي” لم يعد قادراً على إقناع طفل في العاشرة من عمره. إن العقوبات والحصار والحملة الإعلامية الشرسة على كل ما هو روسي من اللغة والثقافة والأدب والموسيقى وحتى الخيول والقطط، لا يعني سوى أمر واحد، يراه الشعب الروسي رؤى العين، ولا يحتاج للرئيس بوتين كي يقنعهم به. فالعداء كامن والنيران المتقدة ضد روسيا كانت خامدة لا تنتظر سوى إشارة البدء من قائد الأوركسترا الأمريكي، الذي فتح كل هذه الكراهية والحقد والغل تجاه كل ما هو روسي، حتى الخيول والقطط!
لقد أعلنت وزارة الخارجية الروسية اليوم أن موسكو لا تعتزم المشاركة في مجلس أوروبا لما تضمره دول الاتحاد الأوروبي وحلف “الناتو” من رغبة في تدمير المنظمة والفضاء الإنساني والقانوني المشترك، حيث لفت بيان الخارجية الروسية إلى أن هذه الدول تسيء استخدام أغلبيتها المطلقة في تحويل المنظمة إلى منصة لتعاويذ التفوق الغربي والنرجسية، لذلك أكدت الخارجية الروسية على أن مجرى الأحداث بات “بلا رجعة”، مشيرة إلى دعوة روسيا ليستمتع هؤلاء بالتواصل مع بعضهم البعض من دون روسيا.

من جانبي أشدّ على يد الخارجية الروسية، وأضيف أن ذلك المستوى المخزي من التدني الإنساني الذي يصل بالدول لعدم الرأفة بأشد الحيوانات إخلاصاً للإنسان، و”معاقبتهم” على هذا النحو، لا يستحق سوى ما قررته خارجيتنا الروسية بعدم المشاركة في تلك المجالس التي تجعل من الأعمال التخريبية التي يقوم بها الغرب الجماعي تحل محل القانون الدولي، بينما تتبع أوروبا السيد الأمريكي الذي يدوس القانون الدولي بحوافره الغليظة.
أعيد تكرار ما اقتبسه بوتين من كلمات رجل الدولة والدبلوماسي العتيد، ألكسندر غورتشاكوف (1798-1883)، خلال المؤتمر الصحفي الكبير، نهاية العام الماضي. يقول غورتشاكوف: “يلومون روسيا لعزلها لنفسها والتزامها الصمت في مواجهة الحقائق، التي لا تنسجم مع القانون أو العدالة. يقولون إنها غاضبة. روسيا لا تغضب، لكنها تركّز”.
وبالفعل، فقد صبرت روسيا زهاء 8 سنوات، بينما راح ضحية الاعتداءات النازية الأوكرانية على جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك 14 ألف مواطن أوكراني، في عمليتين عسكريتين شنتهما السلطة في كييف، التي استولى عليها المتطرفون في انقلاب عام 2014. وراح ضحية تلك الاعتداءات مواطنون أبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم رفضوا ذلك الانقلاب، ورغبوا في الاحتفاظ بثقافتهم الروسية لا أكثر. وكل ما كانوا يريدونه، وما تم الاتفاق عليه بينهم وبين السلطة الأوكرانية في كييف تحت مسمع ومرأى من المجتمع الدولي، وفي حضور قادة كل من روسيا وألمانيا وفرنسا، في إطار اتفاقيات مينسك، أن يكون لهم خصوصية ووضع فدرالي يسمح لهم بممارسة حياتهم على النحو الذي تعودوا عليه، كما فعلت روسيا مع جمهورية الشيشان على سبيل المثال لا الحصر، التي تحيا وفقاً لثقافتها الإسلامية، وتمارس تقاليدها وعاداتها دون تدخل من الكرملين، وفي نفس الوقت تزدهر في إطار روسيا الكبيرة المتنوعة القادرة على استيعاب وقبول الآخر.
أقول إن روسيا صبرت واحتملت ما يفوق طاقة أي من الدول التي تعاديها الآن وتفرض عليها الحصار، وأتحدى أي دولة في أوروبا أن تضع نفسها مكان روسيا وتواجه ذات التحديات، وذات الحرب الضروس التي شنت على روسيا بعد ضمّها القرم، الذي جرى انضمامه دون إراقة نقطة واحدة من الدماء، وباستفتاء شعبي شرعي، تماماً كما حدث في كوسوفو، لكن سياسة الكيل بمكيالين، وازدواجية معايير الغرب تمنعه أن يرى التهديدات الأمنية الحقيقية التي تواجهها روسيا، بينما تتعالى الأصوات الآن لتدمير الآلة العسكرية، التي تثبت العملية العسكرية الروسية أنها بالفعل كانت تهدد الأمن الروسي، بدعم وتنسيق وتدريب من “الناتو” بشكل يفوق الوصف في الفجاجة والعدوان.
إن هدف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هو انتزاع السلاح المهدد للأمن القومي الروسي، واجتثاث النازية من جذورها داخل أوكرانيا، والاعتراف بعودة القرم إلى روسيا، وكذلك الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، وأن تصبح الجارة أوكرانيا دولة حيادية دون أن تنضم لحلف “الناتو”. والوساطة الوحيدة التي يمكن أن تؤثر على مجريات الأحداث، في وجهة نظري المتواضعة، هي وساطة الصين، عضو مجلس الأمن، الذي لا يعتبر روسيا عدواً، كما يعتبرها بقية الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة.
إن الاستفزازات الأوكرانية المتكررة، وذلك الولع والتصفيق الحار وقوفاً للرئيس الأوكراني زيلينسكي، حينما كان يصرح في مؤتمر ميونيخ للأمن بأنه يطالب تحديد الوقت الذي يتطلبه انضمام بلاده لحلف “الناتو”، ورغبته في الخروج من مذكرة بودابست واستعادة الوضع النووي لبلاده، وكم الأسلحة والدعم، بل واستدعاء المرتزقة من جميع أنحاء العالم، هي السبب المباشر في تصعيد الأزمة وليس حلها، وكان أولئك المصفقين والمهللين هم من دفعوا بالأشقاء الأوكرانيين إلى هوة الحرب السحيقة، التي يعاني منها الآن ما يقرب من 5 مليون لاجئ أوكراني عبروا الحدود نحو أوروبا الغربية، ويعلم الله كم منهم سيريد العودة إلى أوكرانيا بأي حال من الأحوال، وهم من يشعلون مزيداً من نيران الكراهية والحقد والغل بين الشعبين الشقيقين الروسي والأوكراني.
ثم تأتي موافقة مجلس النواب الأمريكي بأغلبية ساحقة على تشريع واردات النفط الروسي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما سيدفع روسيا إلى اتخاذ إجراءات مقابلة صارمة، لن تمس الولايات المتحدة وحدها، وإنما ستمس دولاً كثيرة معادية.
ربما يكون فأل خير ما أعلن عن امتناع المملكة العربية السعودية والإمارات عن التجاوب مع مكالمة للرئيس الأمريكي، جو بايدن، ورسالة رئيس الوزراء الإماراتي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حول “التاريخ الجديد الذي يصنع الآن”، والذي تساءل فيه عما إذا كان الأوان قد آن للعرب أن يتقاربوا، ويتعاونوا، ويتفقوا، حتى تتبوأ الأمة العربية مكانها ووزنها في التاريخ الجديد.
فما يحدث ويتكشف أمام أعيننا الآن من ازدواجية الغرب وكذبه، وسرقته جهاراً نهاراً، إنما يؤكد على أننا الآن بصدد صنع تاريخ جديد لروسيا وللعالم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى