لا جديد في نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فكما كان متوقعا، حتى قبل إعلان نتائج الجولة الأولى، ذهب مرشح حزب الجمهورية الرئيس الحالي لفرنسا إيمانويل ماكرون مع منافسته مرشحة حزب الجبهة الوطنية مارين لوبان في الانتخابات التي أدخلت ماكرون الإليزيه، إلى الجولة الثانية التي حسمها ماكرون قبل أيام من النتائج في مناظرة كانت فيها مرشحة اليمين المتطرف الأكثر ترددا والأقل تحضيرا متمسكة بتكتيكها الذي أعلى نجمها في السنوات الخمس الماضية، المتمثل في رفع السقف على المهاجرين وفي القلب منهم المسلمون، وهو ما قنصها به ماكرون، حين أطلق عليها رصاصة الرحمة بقوله:
هجومك على المواطنين المسلمين سيتسبّب في حرب أهلية.
بنسبة 58.8% من الأصوات مقابل 41.2% بقيت أمتعة ماكرون التي حزمها قبل الانتخابات في الإليزيه لفترة رئاسية جديدة مدتها 5 سنوات لتخرج بعدها؛ إذ لا يحق لماكرون الترشح مرة أخرى بعد أن يقضي فترتين رئاسيتين، سيواجه فيهما ماكرون تحديات أكبر من تلك التي لم ينجح في مواجهتها في فترته الرئاسية الأولى؛ تحديات على رأسها التضخم والبطالة، ومما يعزز هذه التحديات حرب أوكرانيا والعقوبات الغربية التي أجبرت عليها أوروبا بدفع من أميركا.
مسح لخريطة مرشحي الرئاسة الفرنسية
رغم أداء ماكرون المخيّب لآمال الفرنسيين فإنهم صوّتوا له بنسبة 58.8%، وهي النسبة المجمعة من تحالفه مع منافسيه الذين خرجوا من الجولة الأولى، فالناظر إلى أداء إدارة ماكرون خلال رئاسته الأولى يجد أن الرجل انتهج سياسات لم تكن لترضي لا العاملين ولا العاطلين ولا المتقاعدين، ولعب على وتري بيع الأسلحة مستغلًا تهافت بعض حكام الشرق الأوسط لكسب ودّ باريس لدعمها في أوروبا ومجلس الأمن، وداخليا على وتر الإسلاموفوبيا حتى يكسب أو على الأقل يخترق شريحة اليمين، مساحة لوبان وغيرها من الجناح اليميني.
فبالإضافة إلى ماكرون ولوبان المتنافسين في الفترة الرئاسية السابقة اللذين تباريا في محاربة مسلمي فرنسا من خلال التضييق أو التحريض، جاء جان لوك ميلانشون مرشح حركة فرنسا الأبية الذي قدم برنامجا يقاطع فيه الليبرالية الاقتصادية بصياغة دستور جديد وجمهورية سادسة تكون أكثر برلمانية وتشاركية، والذي لعب على ورقة المسلمين متناقضا مع التيار الجارف في فرنسا ومدافعا عن المسلمين في حدود المتاح، ففي مناظرة مع مرشح اليمين المتطرف إريك زمور صاحب التصريح المثير للجدل بأنه “إذا أصبح رئيسا لفرنسا فسيمنع تسمية المواليد باسم محمد”، قال ميلانشون “لن تطرد المسلمين ولن تجبرهم على الاختيار بين الإسلام وفرنسا”؛ فالمخاطب كان سقفه أعلى من لوبان التي أرادت أن تمنع الحجاب في الأماكن العامة بخطاب تحريضي تآمري مبني على أن العرب والمسلمين هاجروا إلى فرنسا ليحلوا محل الفرنسيين، والغريب أن زمور فرنسي من أصل جزائري، وللتغطية على خطاب الكراهية الذي يتبنّاه أو لنقل لتبريره يقول إنه أمازيغي وإن العرب احتلوا بلاده!
ليس ببعيد، تأتي فاليري بيكرس مرشحة حزب الجمهوريين، التي خاضت صراعا مع الإسلام في فرنسا وتبنّت قانون منع الحجاب منذ أكثر من 12 عامًا، وترى بيكرس أن الحجاب دليل على خضوع المرأة، وصرحت بأنها إذا ما أصبحت رئيسة للجمهورية فلن تكون أي امرأة خاضعة! كما أن برنامجها اشتمل على بند لترحيل الأجانب الذين تراهم يمثلون تهديدًا للأمن العام، خصوصًا من يتبنّون خطابًا إسلاميًّا.
ووقوفا على تحليل خطاب المرشحين الذي يعكس المزاج العام الحاكم في فرنسا سنجد أن اليمين في فرنسا يتقدم تقدما واضحا على اليسار التقليدي الذي طالما كان تيارًا جامعا في بلد الحريات، إذ إنه من بين أعلى 5 مرشحين رئاسيين من حيث عدد الأصوات، كان 4 منهم ينتمون إلى اليمين، وبالتوازي مع ذلك وضح صعود التوجهات القومية، إذ تشترك في ذلك الأحزاب اليمينية واليسارية “المتطرفة”، وهو -بالمناسبة- ما عزز حظوظ ماكرون، لكن الموقف من المسلمين كان حاضرًا بكل قوة مع حضور اليمين بالقوة نفسها، فالأغلب الأعم تبنّوا خطابًا ساخطًا ضد الإسلام والمسلمين في فرنسا لدرجة أن البعض روّج لما سمّاه “النزعة الانفصالية الإسلامية”، لتخويف الناخب وجذبه إلى البرامج التي ستوقف هذا التمدد.
أوكرانيا تنقذ ماكرون من فخ لوبان
قدم فلاديمير بوتين هدية العمر لماكرون بقراره غزو أوكرانيا، فعلى الرغم من أداء ماكرون غير المقنع على المستوى الداخلي وتذمّر شرائح عدة من سياساته الداخلية، لا سيما الاقتصادية، جاءت الحرب الأوكرانية لتخرجه من مأزق أدائه الضعيف، فالآلة الإعلانية الغربية صوّرت الحرب في أوكرانيا على أنها حرب وجود وشبّهت بوتين بهتلر القرن الـ21، واستفاد ماكرون في خضمّ ذلك، على طريقة حكام الشرق الأوسط، أو على نهج الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر “لا صوت يعلو على صوت المعركة”.
ولأن منافسيه القادمين من خلفيات قومية طرحوا في برامجهم وتبنّوا في خطاباتهم الخروج من الاتحاد الأوروبي أو على الأقل حلف الناتو، لعدم جدواهما وتحميلهما الدولة أعباء يحق للمواطن أن يستفيد منها بدلًا من اليونان وقبرص، فأصبح لسان حال ماكرون المستفيد من الحرب “الوجودية” في أوكرانيا كما الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك “أنا أو الفوضى”.
ومن المفارقات أن الرئيس السابق-الحالي هو آخر مرشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية، ومن المفارقات أنه لم يول الاهتمام الأكبر لحملته الانتخابية كبقية المرشحين المنافسين معتمدًا في ظل ذلك على نظرية عبد الناصر (لا صوت يعلو..). وعلى الرغم من أن مارين لوبان استدرجته لفخ الفشل الداخلي وعلى الرغم من استطاعتها اختراق صفوف العمال والمتقاعدين مستفيدة من غضب تلك الشرائح من ماكرون فإن ماكرون تخلص من قبضتها في المناظرة الوحيدة التي جمعتهما قبل أيام من الصمت الانتخابي، حيث حرص ماكرون على تأكيد وعده بفرنسا أكثر استقلالًا على الصعيد العسكري للدفاع عنها في الأزمات، مستفيدًا بالقطع من حرب أوكرانيا وإملاءات الرئيس الأميركي السابق ترامب، وتعهد بجذب استثمارات كثيفة في قطاعي الزراعة والصناعة، قبل أن يعود ويؤكد أن الفرنسيين مضطرون للتعايش مع الأزمات بعد أن عادت الحرب إلى القارة العجوز، وهو ما يمكن قراءته على أنه تلوّن احترافي واستفادة من الأزمة للهروب من تحقيق النتائج.
لماذا صوّت مسلمو فرنسا لماكرون؟
لعل خريطة المرشحين للرئاسة الفرنسية تضعنا أمام حالة عاشها المسلمون في فرنسا أثناء وضعهم ورقة اختيار مرشح الإليزيه، فبين ماكرون صاحب مشروع قانون ميثاق الجمهورية وبين من سيمنع تسمية المواليد باسم “محمد”، وقف اليسار الذي مثله جان لوك ميلانشون ضعيفًا في ظل تراجع غير مسبوق للأحزاب اليسارية التقليدية.
وحسب استطلاعات الرأي التي قام بها معهد دراسات الرأي والتسويق في فرنسا والخارج، فقد صوّت 70% من مسلمي فرنسا في الجولة الأولى لمصلحة مرشح حزب فرنسا الأبية، اليساري جون لوك ميلانشون، لكن هذا التصويت لم يحدث فارقا في ظل تنامي الخطاب المتطرف في فرنسا الذي أصبح مزايدة يتبارى فيها الأغلب من أجل إرضاء المزاج العام، والذي كشفت عنه انتخابات 2017، والذي أوصل لوبان لتنافس على مقعد الإليزيه.
وفي لقاءات أجرتها وكالة الأناضول في فرنسا مع عدد من الناخبين المسلمين الذين أدلوا بأصواتهم في مدينة ليون، قال عدد من مسلمي فرنسا إن تصويتهم في الجولة الثانية جاء اضطراريا، فلم يكن أمامهم خيارات متعددة أو خيارات بين فاضل ومفضول، بل كان الخيار بين قانون ميثاق الجمهورية الذي ضيّق عليهم وبين من وعدت بمنع المسلمين من أداء بعض شعائرهم.
5 سنوات عجاف تواجه الجالية المسلمة في فرنسا تحت حكم ماكرون، ليس من أجل ذلك القانون أو تلك التضييقات فقط، بل لأن الجالية المسلمة في فرنسا جلّها مهاجر ويحتاج إلى فرص عمل واستقرار اقتصادي بعيدًا عن مخاوف الترحيل أو الإقصاء وبعيدًا عن مزيد من الضرائب والفواتير التي تبدو في الأفق في ظل الحرب الأوكرانية التي ستترك آثارها على مدى سنوات على الأغلب، ستكون الجالية المسلمة فيها الطرف الأضعف.
وعلى الجالية المسلمة من الآن أن تحدد خياراتها وتنظم صفوفها وتبني تحالفاتها لمواجهة الأصعب، وإن كان في النهاية أخفّ الضررين.