صحافة ورأي

حين تُقهقه أمريكا يبكي التمثال – بقلم: د. أيمن أبو الشعر

بتاريخ الخامس من فبراير شباط عام ألفين وثلاثة قام كولن باول بأحقر مسرحية في التاريخ، مسرحية أسفرت عن مقتل وإصابة وتشريد الملايين من العراقيين.

• أكبر كذبة في التاريخ حين أكد كولن باول في مجلس الأمن: “بعيني رأيتُ الذئب يَحلِبُ نملةً!

• وبعد عشرين سنة من كذبة باول، يؤكد بايدن أنه رأى “الشياطين في محيط غزة تقطع رؤوس الملائكة”!!

ليس غريبا أن تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في العالم بالكذب والنفاق، وعلى مرأى من العالم والتاريخ، وربما استفادت من خبرة وزير الدعاية النازي “غوبلز” ، وتبنت مقولته الشهيرة التي تعبر عن نهجه ” اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس”، فها هو الرئيس بايدن يطلع على العالم بتأكيد عجيب غريب، وكأنما الكذب في خضاب دمه، حيث ادعى مرتين أن حماس تقطع رؤوس الأطفال، وأنه شاهد صورا لممارسات حماس هذه في محيط غزة! قال: ” لم أعتقد قط أنني سأرى لقطاتٍ مؤكَّدةً لإرهابيين يقطعون رؤوس الأطفال” ومن ثم ادعى كذلك عندما التقى بالرئيس الصيني شي جين بينغ أن حماس أعلنت أنها تخطط لمهاجمة إسرائيل مجددا كما فعلت من قبل، وأنها “ستقطع رؤوس الأطفال الرضع، وستحرق النساء والأطفال وهم أحياء”، طبعا بلهجة توحي بأنه يتحدث عن حقيقة أن الشياطين تقطع رؤوس الملائكة. كذبة رهيبة لا يتحملها عقل، ولكن المهم بالنسبة للسياسيين الكذابين أن ينتشر الخبر، ثم يمكن معالجته بتدقيق أو نفي، وبالفعل سرعان ما أعلن البيت الأبيض أن بايدن في الواقع لم يشاهد مثل هذه الصور لكن وصل إليه مثل هذا المضمون من الأعلام والمصادر الإسرائيلية، بل إن بعض الرهينات اللواتي كن لدى حماس أعلنَّ بوضوح ساطع أن عناصر حماس عاملوهن باحترام شديد.

محطات من تاريخ الكذب الأمريكي

الكذب الأمريكي لا يقف عند حدود، فالسياسيون الأمريكيون لا يتوانون عن التأكيد بأن اللبن أسود، وأن الديك هو الذي يبيض، حتى أن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر بدا أنه حتى لو وضعوا أمام عينيه مجهرا، فإنه لن يرى أن القوات الإسرائيلية تقوم بإبادة جماعية ضد أهالي غزة، وذلك في محاولة للتقليل من أهمية رفع جنوب إفريقيا دعوى في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل لشنها حرب إبادة في غزة، فهو لا يرى ذلك، رغم أن القصف الإسرائيلي حوَّل آلاف الأطفال إلى أشلاء تحت أعين العالم عدا عن منع أسباب الحياة عن أهالي غزة، حتى أن وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت قال بافتخار أن إسرائيل تفرض حصارا محكما، على غزة وتمنع عن سكانها الطعام والماء والدواء، وربما ترى واشنطن أريحية إنسانية في ذلك، فإسرائيل لم تمنع الهواء بعد عن غزة!

لو استقرأنا التاريخ لوجدنا أن الرئيس التاسع لأمريكا وليم هاريسون ( 1773- 1841) ادعى في حملته الانتخابية أنه ولد في أسرة فقيرة، وذلك ليستدر عطف الفقراء ويصوتوا له في حين كان في الواقع من أسرة ثرية جدا، وبدوافع استعمارية أعلن الرئيس الأمريكي الحادي عشر جيمس بولك (1795-1849) أن الجيش المكسيكي غزا أراضي الولايات المتحدة غدرا، لكنه في الواقع أرسل قوة صغيرة إلى الأراضي التي رفضت المكسيك بيعها لأمريكا كطعم حيث واجهتها القوات المكسيكية، وقام إثر ذلك بمهاجمة المكسيك وضم كاليفورنيا ونيو ميكسيكو وغيرها قبل وبعد ذلك، ناهيك عن الحجج الكاذبة التي اتخذت مطية لاحتلال كوبا والفليبين وبورتوريكو، كما كان الاشتراك في الحرب على فيتنام الشمالية بحجة مهاجمة السفن الأمريكية، وقد تبين كذلك أنه كذبة حيث استغل خطأ راداري لتمرير الكذبة، ثم فضيحة فندق “الووتر غيت” حيث أعلن نيكسون على الملأ أنه بريء من عملية زرع أجهزة تنصت على الهواتف، ثم تبين أنه كاذب، وكان الرئيس الأسبق كلينتون قد كذب أيضا في قضية حساسة بعد انكشاف علاقته مع مونيكا لوينسكي الشابة المتدربة آنذاك في البيت الأبيض، وأنكر وجود علاقة جنسية معها، بل أقسم وأدى يمينا على ذلك، ثم اضطر للاعتذار، معترفا بأنه كذب، وهي عادة متأصلة لدى الأمريكيين والبريطانيين ومعظم الساسة الغربيين عموما.

الكذبة الكبرى من أمريكا عدوة الشعوب

بتاريخ الخامس من فبراير شباط عام ألفين وثلاثة قام كولن باول بأحقر مسرحية في التاريخ، مسرحية أسفرت عن مقتل وإصابة وتشريد الملايين من العراقيين. عادة في الحروب بين بلدين بغض النظر عن أسبابها، يستخدم كل طرف الخديعة قدر ما يستطيع، ولعل أشهر خديعة في هذا المجال هي حصان طروادة، الذي تمكن الإغريق بهذه الخديعة من اقتحام طروادة من بوابتها بعد أن أخفقوا باجتياز حصونها، لكنهم استخدموا الخديعة التي تحمل الطابع الإسطوري، وليس الخسة والدناءة والافتراء كما فعلت أمريكا لاستعداء العالم على العراق، وذلك في أهم مؤسسة متخصصة بحل إشكالات دول العالم، في مجلس الأمن، وليس في إطار حرب بين دولتين، ولهذا حرصت الولايات المتحدة على إشراك دول أخرى كبريطانيا وكذلك ولو رمزيا أستراليا وبولونيا لتبعد صورة تصفية الحسابات مع العراق الذي بات يهدد إسرائيل .

كولن باول لعب دور النذير الذي يهمه مصير العالم، وراح “رمزيا” ينشد بيت المتنبي الذي بدا بمضمونه وحيثياته رغم غرابته ولا معقوليته أقرب إلى المنطق من أطروحة كولن باول حول الجمرة الخبيثة: “بعيني رأيتُ الذئبَ يَحلِبُ نملةً ويشربُ منها رائباً وحليبا”، والذين يستمعون في مجلس الأمن مشدوهون، هل يعقل هذا الكلام، هل يمكن تصديق ذلك؟ كان كولن باول يحمِلُ حصان طروادة صغير جدا “الخديعة” بين أصابعه، حصان طروادة الماكر هذا لم يكن يختبئ فيه جنود اسبارطة لينزلوا منه ليلا ويفتحوا بوابة الحصن، بل كان بحجم الخنصر، وفيه مسحوق أبيض، وراح يتحدث عن الرعب الذي ينتظر العالم موحيا بأن ما بين أصابعه هو دليل قاطع على امتلاك العراق فيروس الجمرة الخبيثة!!!

نقلت كذبتَه الكبرى الكاميراتُ الصحفية والتلفازية إلى كل أنحاء العالم، وكأنه يقدم كشفا وسبقا تحذيريا يستحق عليه جائزة نوبل للسلام، فهو بهذه المسرحية أراد أن يظهر أن واشنطن تنقذ العالم من أسلحة الدمار الشامل التي يملكها صدام حسين، تحدث كولن باول وكأنه يقدم أدلة مؤكدة لا يخالطها شك، تحدث كمعلم أمام تلاميذ في المرحلة الابتدائية يستخدم وسائل إيضاح، وكانت لهجته مع حماسه في نطق عباراته التي أراد لها أن تكون حاسمة قدسية لا يرقى الشك لها في تصوره كالآيات التي حاول مسيلمة الكذاب معارضة القرآن بها: ” الفيل وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل…” ويتبعها في شرح الوضع الراهن بقول مسيلمة: ” يا ضفدع بنت الضفدعين.. نقّى ما تنقّين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء، وذنبك في الطين”…، كان مهرجا حقيقيا، لكنه مهرج يبث السم القاتل، وهو يحرك بيده تلك الأنبوبة الصغيرة التي كان أولى أن تكون تحميلة له، وللسياسة الأمريكية القذرة.

سياسة أكثر من حقيرة

لماذا سياسة أمريكا قذرة وحقيرة؟ هل أحد منكم يصدق أن الكذابين الكبار كولن باول، وبوش الابن، وجورج تينيت، وتوني بلير، كانوا مخدوعين فعلا، وصدقوا المعطيات المخابراتية، ثم اكتشفوا أنّها غير دقيقة فاعتذروا!! بعد ما فعلوه بملايين العراقيين. 1200 مفتش دولي بحثوا في كل مكان، وحتى في اصطبلات الأبقار، فقد يكون الروث هناك قد جُمع لاستخدامه في صنع سلاح دمار شامل!!! ترى لو كان لدى العراق أسلحة دمار شامل، وشُنت عليه حرب وجود أو فناء، أما كان بإمكانه أن يستخدم هذه الأسلحة؟ على الأقل على مبدأ شمشون “عليَّ وعلى أعدائي يا رب”. ماذا كانت النتيجة؟ تم تحويل العراق إلى بلد تنهش وحدته الوطنية الصراعات الطائفية والإثنية.

هل تولّي الدول الكبرى فعلا لقيادة شؤونها أطفالا أبرياء، يُخدعون بكل هذه البساطة كأطفال في المرحلة الابتدائية، ثم يُعبرون عن ندمهم كالقديسين؟ إنهم أمكر الأبالسة، ويمكن لشيطان غوته مفيستوفيليس أن يتعلم على أيديهم، وتعبير النادمين المزيفين عن ندمهم بعد أن خدعوا مجلس الأمن يُذكِّر بحكاية شعبية رمزية قاسية تقول: قام رجل دين مزيف بخداع صبية، راودها عن نفسها بكلام معسول حتى لانت، ثم امتنعت قائلة: أخاف أن أحمل منك… فطمأنها رجل الدين المزيف وقال: لن يحدث ذلك، فسألت وإن حدث ، أجاب بحسم لن يحدث وإن حدث تعالي وابصقي في لحيتي… بعد أشهر جاءت الصبية فزعة وقالت لرجل الدين المزيف: لقد حملت، ألم أقل لك ذلك، فتبسم رجل الدين المزيف وقال: “نعم ابصقي في لحيتي ووجهي أيضا إذا أردتِ”!

ولهذا يضحّي هؤلاء الساسة الماكرون بالشعوب في سبيل مصالحهم، وهم يعلمون أن شعوب العالم تبصق عليهم وفي وجوههم صبحا ومساء، ومن المفارقات المذهلة أن تمثال الحرية ينتصب في أمريكا عدوة الحرية، هذه المفارقة تدفع حتى الحجر في التمثال للتأثر كما صوَّرتُه في قصيدة قديمة جدا لي عن تمثال الحرية في أمريكا حيث يخرج روحا من جسده الحجري، ويطوف مدن البؤس ويزور شعوب العالم التي اضطهدتها أمريكا ليواسيها، ويتعاطف معها، ثم يعود من رحلته الليلية اليومية ليسكن الحجر الصوان من جديد، وتختتم القصيدة بهذه العبارات:

وقبلَ رحيلِ العَودِ يَصيرُ الحلمَ الدافئَ

في دارِ الأيتامِ يُغني للأطفالْ

حينَ الأخبارُ تُقطِّبُ جبهةَ أمريكا

تنفجرُ الضحكةُ في شفتيهِ برغمِ الصخر

وحين تُقهقِهُ أمريكا يبكي التِمثالْ


  1. قال المتنبي هذا البيت ليسخر من غني اشترى من بائعة فقيرة سمكا في الكوفة، وأعطاها أقل من ثمنه بكثير ومضى، نادته المرأة فلم يلتفت وناداه المتنبي فلم يلتفت فقال فيه هذا البيت.
  2. بول جوزيف غوبلز وزير الدعاية – الإعلام- في حكومة هتلر منذ 1933- وحتى 1945، وكان نازيا متشددا وقريبا جدا من هتلر.
  3. لم يعط أي قرار أممي الحق للولايات المتحدة بغزو العراق واحتلاله، وإنما تم ذلك باجتهادات في تفسير القرار 1441الذي لم ترد فيه أية إشارة إلى السماح بغزو العراق واحتلاله.
  4. من قصيدة تمثال الحرية، مجموعة بطاقات تبرير للحب الضائع صفحة 12 – إصدار اتحاد الكتاب العرب، عام 1974

المصدر: ماتريوشكا نيوز 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى