ليلة الإعدام الفاشل، وسر الزمن الجميل. بقلم د. أيمن أبو الشعر
• الإرهابيون الذين هاجموا مجمع كروكوس في ضواحي موسكو هم أحفاد الذين قاموا بمحاولة اغتيالي وبعمليات الاغتيال الجماعية في سوريا
• الإيمان بالنصر وبعدالة القضية الفلسطينية، وتفاعل الناس أثناء وبعد محاولة الاغتيال يجعل الزمن جميلا
-المفارقة
ما هو السر المذهل في أن الإنسان إذ يفتح دفتر الذكريات وتستوقفه صفحات مريرة مظلمة تستنهض حوادث خطيرة مؤلمة، ومع ذلك يبتسم مُرَّحِبا بتلك الذكريات، ويعتبرها نوعا من النياشين التي زينت صدر حياته، حتى إبان التعذيب في السجون بل وحتى في تعرضه لمحاولات اغتيال كادت أن تودي بحياته، ويقول ببساطة: هذا من ذكريات الزمن الجميل!
السر هو ما يحمله “الزمن الجميل” لأرواحنا من توثب وإيمان بالمستقبل، والمفارقة أننا من المحيط إلى الخليج، كنا -شعوباً- على قلب رجل واحد، ولا أقول زعماء أو حكومات، ومع ذلك لم يكن أحد من الحكام أو مسؤولي الدرجة الثانية يتجرأ أن يبدي ولو نأمة تَقبُّل لإسرائيل، وكانت مختلف القوى السياسية -رغم تناحرها فيما بينها- تتبارى بصدق للتعبير عن أن فلسطين هي قضيتها الأولى، رغم المعاناة ورغم الألم كان الإيمان بالنصر قد توهج خاصة بعد انتصار شعب فييتنام الذي أشعل جذوة الأمل فينا. … حين تقارن ذاك الزمن بزمن نعيشه الآن، ونرفضه ستشعر بالمفارقة الصارخة، ففي هذا الزمن “الشنيع” يتباهى معظم الحكام العرب لا بتقبل إسرائيل وحسب، بل بالتعاطف معها ودعمها، وموقفهم تجاه شعبنا في غزة أقرب ما يكون إلى رفع العتب بانتقاد عابر أو بنصيحة “أخوية” لإسرائيل بأن تبعد المدنيين في غزة إلى مكان آخر ثم تعيدهم بعد القضاء على المقاومة!!! كان العرب -أو فلنقل غالبيتهم – على الرغم من تباينهم وحتى تناحرهم- متفقين على أن قضيتهم الرئيسية هي قضية فلسطين وتحريرها، ألا يكون ذاك الزمن والحال كذلك هو الزمن الجميل بغض النظر عن منغصاته؟
– الإرهاص
كمثال على المفارقة سأحدثكم بإيجاز نسبي عن حيثيات محاولة الاغتيال التي تعرضت لها وفق ما تجود به الذاكرة. جرت الحادثة في ذاك “الزمن الجميل” -وفق المقاييس التي ذكرتها- والتي يمكن أن نسميها ليلة الإعدام الفاشل، فأية محاولة اغتيال هي سعي لتنفيذ حكم بإعدام هذا الشخص أو ذاك بعيدا عن القانون وبغير حق، حكم غير شرعي بالإعدام.
حتى لا أدخل في بعض التفاصيل غير الضرورية أنوه بأن اسم “أيمن أبو الشعر” كان قد حقق حضورا جماهيريا معقولا، وخاصة بعد انتشار قصائد من مثل قارع الطبل الزنجي والصدى والحلم في الزنزانة السابعة * ، عبر كاسيتات التسجيل مما دفع حسب بعض التقديرات إلى تفتح العيون من مختلف القوى تجاه هذا الشاعر وما سيقوله ومدى تأثيره، الأمر الذي كان يزيده جرأة في أن يفضح التخلف و القهر، وأن يتحدى شبه وحيد ذاك العالم الذي كان ضده- كما يقول الشاعر الراحل الكبير شوقي بغدادي-… أعتقد أن هذا يكفي لتوضيح الصورة قدر الإمكان ** … والأمر بالطبع ليس له طابع شخصي، وأنا واثق أن الإرهابيين الذين هاجموا الحفل الموسيقي وقتلوا الناس الأبرياء في ضواحي موسكو هم أحفاد أولئك الذين اغتالوا عددا كبيرا من التقدميين في سوريا ولبنان، وحادثة محاولة اغتيالي صغيرة خاصة كونها فشلت، قياسا بعمليات الاغتيال الجماعي الذي كانت تقوم به عصابات داعش وخاصة القادمين من آسيا الوسطى، ولكني واثق أنه لو كان لدى الذين هاجموني آنذاك رشاشات لما توانوا عن إطلاق الرصاص على الحشود في قاعة مدرج جامعة دمشق، بل كما فعل عناصر النصرة -التابعين لداعش ثم القاعدة حين اقتحموا نهاية عام 2013 المنطقة الصناعية في مدينة عدرا وراحوا يقتلون الناس على الهوية، عائلات بأكملها أكثر من مئة شخص حسب الخارجية السورية…أي كما فعل أحفادهم – أحفاد الفكر الظلامي في قاعة الموسيقى في ضواحي موسكو.
– محاولة الاغتيال أمام الناس
في أواسط آذار عام 1975 إن لم تخني الذاكرة، أعلن عن أمسية لي ستقام في مدرج جامعة دمشق الكبير، وقبل بضعة أيام من الأمسية جاءتني وتهديدات عبر الهاتف بتصفية الحساب معي، وفكرت أن أتصل بالشرطة والأمن لاتخاذ الإجراءات اللازمة لكنني نصحت بألا أفعل ذلك، حتى أن بعض الأصدقاء لم يستثن أن تكون الأجهزة الأمنية نفسها وراء هذه التهديدات لتتخذها مبررا لإلغاء الأمسية، لكني لا أعتقد ذلك.
طبعا ناقشت الأمر مع الرفاق فأنا إنسان يساري معروف، ولكني مع ذلك إنسان أممي وعروبي بأن معا، لذا لم تكن هناك أية عداوات محتملة من القوى القومية، ففي كثير من قصائدي أتحدث بحرارة عن الوحدة العربية، وكنت وما زلت مؤمنا بأن الإنسان الأممي الذي يؤمن بضرورة أن تحظى الأقليات القومية بحقوقها الثقافية والفولكلورية، هو حتما مع تكريس هذه الحقوق بالنسبة للقومية الكبرى في هذا البلد أو ذاك. ولفت نظرنا أن في الاتصالات والرسائل المليئة بالشتائم والوعيد ظلالا دينية، كعبارة ” يا عدو الله” وغيرها، إنهم من الزومبي المتحجرين، لم نأبه لهذه التهديدات ولكن لا بد من أخذ الحذر.
-في الطريق إلى مدرج جامعة دمشق
كانت عادتي أن أمضي إلى الأمسية وحيدا مشيا على الأقدام، وكنت أختار الشوارع الأكثر هدوءا خصيصاً لأني كنت أحاول في الطريق حفظ أداء القصائد وحتى طابع إلقاء هذه القصيدة أو تلك، أي ما يشبه البروفة… لكن الأصدقاء المقربين (عمران منصور، وحمادة كيكي، وبرهان عكو) أصروا على مرافقتي فطلبت منهم ألا يسيروا بقربي مباشرة كيلا يعيقوني عن الأداء التجريبي…
مرت الأمور بسلام طيلة الطريق لكن المفاجأة غير المتوقعة كانت عندما وصلنا مبنى مدرج جامعة دمشق حيث تقدمني لبضعة أمتار عمران وبرهان فيما تنحى حمادة جانبا ليدخن، وقد أدار ظهره بشكل طبيعي لي، في هذه الأثناء وكنت بعد في الدرجة الأولى أو الثانية من الدرج الذي يوصل إلى المدخل لاحظت لثوان أن أعدادا من الناس من الأعلى تؤشر لي وتصرخ لم أفهم الأمر في هذه اللحظات بالذات وصل إلى ورائي رجل “بلحية سوداء” خرج من سيارة كانت متوقفة قرب الدرج وانهال بقضيب حديدي على رأسي فالتفت لا إراديا ورفعت يدي للدفاع عن وجهي فجاءتني الضربة الثانية على يدي وسقطت مغمى، وركض المهاجم إلى السيارة التي انطلقت به قبل أن يستوعب أحد ما حدث.
هرع عمران وبرهان وحمادة والعديد من الناس الذين كانوا قرب المدخل ممن جاؤوا لحضور الأمسية ورفعوني، وكان رأسي ينزف، فساعدوني وأسرعوا بي نحو مشفى الجامعة القريب جدا من المدرج… أوقف الطبيب المناوب النزف حيث كان ظهري مغمسا بالدم، وضمَّد يدي فقد تبين أنها مكسورة من الضربة الثانية، وقال إلى العناية المشددة، نظرت إلى الشباب وفهموا نظراتي بأنه لا يجوز أن نترك الجمهور ينتظر… وصلت إلى القاعة المكتظة وكان الشاعر المبدع عبد القادر الحصني قد غطى فترة غيابي بشكل لائق …
-مرايا الزمن الجميل
وقفت أمام الميكرفون، وشعرت بقوة هائلة من تفاعل الجماهير، فابتسمت وقلت لهم بثقة: “كنت أعلم أن في الدرب كلابا ولكني، وهذا خطأ مني كنت أظن أنها تجيد النباح فقط، لكنها كانت تجيد العض أيضا..” ***
حادثة وضعتني خلال ثوان بين الموت والحياة، ومع ذلك كانت من معطيات “الزمن الجميل! كيف؟ نعم لأن الأمل كان يزين ذاك الزمن ويجعله جميلا، لأن الناس التقدميين الرائعين كانوا يزينون ذاك الزمن ويجعلونه جميلا، وخاصة مجموعة الشباب والبنات التي كان أفرادها يتناوبون في المشفى ليل نهار لمتابعة وضعي الصحي كانوا يزينون ذاك الزمن ويجعلونه جميلا… زيارة الأدباء كوليت خوري وزكريا تامر ومحي الدين صبحي لي في المشفى وتلهفهم بصدق تجعل الزمن جميلا، ثم زيارة الشاعر محمود درويش مع زهير تيناوي أولا، وبعدها مع العميد محمد الشاعر لي في البيت بعد خروجي من المشفى تجعل الزمن جميلا… خاصة أن العميد محمد الشاعر رئيس فرع اتحاد الكتاب الفلسطينيين في سوريا والذي غدا فيما بعد أول سفير لفلسطين في موسكو هو الذي نصحني بالمغادرة إلى الاتحاد السوفييتي، والأهم هو أن الإيمان بأن تحرير فلسطين سيأتي حتما وقريبا جدا كان الزينة الكبرى التي تجعل الزمن جميلا…
* الصورة من إحدى أمسياتي بعد محاولة الاغتيال