صحافة ورأي

شيرين أبو عاقلة التي ظلمها الجميع

بقلم ياسر عبدالعزيز

في السابعة من صباح يوم الأربعاء الماضي، طالعت الأخبار كعادتي، فإذا بموقع الجزيرة ينشر خبراً عاجلاً.. (استشهاد مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة) وفي التفاصيل: استشهدت مراسلة الجزيرة الزميلة شيرين أبو عاقلة عندما أطلق عليها جنود الاحتلال الإسرائيلي الرصاص الحي أثناء تغطيتها لاقتحام الاحتلال مدينة جنين بالضفة الغربية المحتلة، فجعت كما الملايين من شعبنا العربي.

ثم أصدرت القناة بياناً رثت فيه الزميلة الصحفية الدؤوبة التي عرفها الفلسطينيون والعرب قبل أن تعرفها شاشة الجزيرة، التي زادتها انتشاراً، ومنحتها مساحة أكبر للتألق، تحدثت القناة في بيانها عن جريمة قتل وصفتها بالمفجعة طالت مراسلتها، جريمة خرقت بها قوات الاحتلال القوانين والأعراف الدولية، وبحق، فقد كانت الزميلة ملتزمة بمعايير الأمان المنصوص عليها في مدونات العمل الصحفي أثناء النزاعات، كما أن المقاطع المصورة التي ظهرت سواء من القناة أو الصحفيين المرافقين للزميلة المغدورة أظهرت أنها وزملاءها كانوا على مسافة مقبولة من العمليات الدائرة في المخيم.

الصحافة هي مهنة البحث عن المتاعب، تزيد تلك المتاعب إذا ما كنت صحفيًا ميدانيًا، تحمل على عاتقك مسؤولية حمل الحقيقة، تلك الفضيلة التي لا يحملها إلا أصحاب المبادئ والأرواح النقية، ولأن هؤلاء يحملون راية الخير، فإنهم دوما ما يكونون في مرمي فسطاط الشر، ولأن ذلك الفسطاط متشعب ومتغلغل في كل زاوية من تلك المعمورة فإن أصحاب رايات الحق يتخطفون في كل واد وكل ساحة، ورغم التعاطف الذي يلقونه شعبيًا فإن جرائم العنف الجسدي التي يتعرض لها هؤلاء ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، لأنها تحارب حقا من حقوق البشر في محاربة الشر ونصرة الخير.

إذن فإن استهداف الزميلة شيرين أبو عاقلة هي جريمة تتعدى انتهاك حق الإنسان في الحياة، وحرمان عائلتها وأحبابها منها، بل هو حرمان البشر من حق معرفة الحقيقة التي كانت تنقلها شيرين أبو عاقلة للعالم العربي والمغتربين منهم في بقاع العالم المنتشرة، لذا فإن ما ارتكب بحق أبو عاقلة جريمة متعدية وتصل إلى حد الجرائم ضد الإنسانية.

حياة حافلة تستحق الإشادة
ولدت شيرين أبو عاقلة في يناير/كانون الثاني 1971 في القدس، درست في مدرسة راهبات الوردية في بيت حنينا في مدينة القدس، وتخرجت فيها بعد أن حصلت على الشهادة الثانوية، لتلتحق بجامعة العلوم والتكنولوجيا بالأردن حيث درست في البداية الهندسة المعمارية، قبل أن تغير اتجاهها إلى دراسة الصحافة، حيث حصلت على بكالوريوس في الصحافة والإعلام من جامعة اليرموك الأردنية، متخصصة في الصحافة المكتوبة.

هذا التحول في الدراسة رسم لها تحولا في المستقبل، حيث ذهبت بها الأقدار من طريق الشهرة التي تمهدها الصحافة للنابهين فيها إلى طريق المجد الذي مهدته لها برصاصة الغدر التي أطلقها الجندي الإسرائيلي الغادر كرصاصته ظنًا منه أنه سينهي حياتها ويسكت صوتها، لكن الأقدار التي دفعت شيرين أبو عاقلة إلى دراسة الصحافة أرادت لها أن تخلد ويبقى صوتها سرمديا وكلماتها التي نقلت بها الحقيقة مجردة منحازة، بلا شك، إلى الحق ومنتصرة للمظلومين.

منذ 1997 تاريخ انتقالها لقناة الجزيرة اختارت أبو عاقلة المهمة الأصعب، التغطية الميدانية، فحملت أسلحتها البسيطة، ورقة وقلم وميكروفون ليحمل زملاؤها لها الكاميرا مشكلين جيشًا كانت هي في صدارته، ينتصر للحقيقة، وحملت مع أسلحتها عبء قضية يراد لها أن تموت على طريقة الهنود الحمر، إبادة جماعية وتهجير قسري ينتهي بكيان جامع لشذاذ الأرض على جثث وأطلال شعب عمر تلك الحضارة منذ آلاف السنين.

ظلت أبو عاقلة حاضرة في الميدان ترصد وتنقل كل شاردة وواردة للاحتلال في خطته الأشمل لإبادة الشعب الفلسطيني، وفي المقابل نقلت بطولات الشعب الفلسطيني بكل أشكالها تمسكا بالأرض والتاريخ وإرث الأجداد، تنقل معاداة شعب يراد له أن يحصر ويسجن في أرضه حتى الموت، فشهدت انتفاضات وتظاهرات ومواجهات تناهض القتل والهدم والتجريف، كما كانت شاهدة على عمليات بيع القضية الصامتة أو الصاخبة، من أبناء القضية أو من يدعون نصرتها، ليبرروا لشعوبهم شرعية بقائهم، فالقضية الفلسطينية محل شرعية لدى الشعوب العربية والإسلامية، وهم يعون ذلك، فكانت عين الشعوب على تحركات قادتها.

لقد سجلت أبو عاقلة مع زملائها سجلاً لا يمكن تجاوزه لأي مؤرخ يريد رصد 25 عاماً من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي الممتد منذ أول قدم صهيونية حطت على أرض العرب والمسلمين، ذلك الأرشيف الضخم الذي تركته شرين أبو عاقلة سيكون كاشفاً في قادم الأيام، كما أنه سيكون مدار مساومات، بين من تعريه القضية ومن تلبسه تاج الوقار أمام شعبه، لم تكن شيرين أبو عاقلة على مدى ما يقارب 30 عاماً إلا ميزاناً ومعياراً يمكن به الرجال، وترمومتر تقاس به سخونة القضية المحورية لدى الأمة.

شرين أبو عاقلة التي ظلمها الجميع
لم تتوقف عقارب الساعة عند السابعة إلا الربع يوم الأربعاء الموافق 11 مايو/أيار 2022 بلا شك بل استمرت الحياة رغم أن شيرين أبو عاقلة توقفت عندها تلك العقارب، فهناك حياة مستمرة، وفي تلك الحياة من أدمن الظهور ويتخذ من ظهور الأبطال مركباً للوصول للشهرة، أو كسب موقف، وفي بعض الأحيان كسب المال.

لقد كانت شرين أبو عاقلة وعلى مدى الأيام الماضية محل اهتمام ومتابعة الأمة العربية، وفي داخل الكيان المحتل الذي يشار له ببنان الإدانة، بل وفي دوائر الصحافة والإعلام ومناصري الحقوق والحريات في أوروبا وأميركا، وعلى استحياء وتحت ضغط الناشطين لدى السياسيين في القارتين.

ففي بلادنا خرج مشاهير “سوشيال ميديا” وأنصافهم ليدلوا بدلوهم مستفيدين من “ترند” متابعة البطلة المغدورة، ويكفي أن تضع اسم أبو عاقلة لتكون في أوائل منصات محركات البحث النصية أو المرئية، وانجر هؤلاء ومعهم مثقفون في خدعة جرتنا إليها جهة ما لا يمكن التحقق منها، وانجرفنا في تيارها، لتحرفنا عن قضيتنا، وظلت تلك الديلمة مثار النقاش ومدار الحديث، وأقصد بالطبع، القضية الجدلية في جواز الترحم على شيرين أبو عاقلة، لنلتفت عن القضية الجوهرية كهدف أول، ولترتيب نسق العقلية العربية من قبل جهات لا يمكن التحقق منها، في ظل تضافر الجهود بين أعدائنا وحكامنا في السنوات المئة الأخيرة، فكانت أبو عاقلة ضحية من جديدة لهذا الاغتيال المعنوي.

ثم كان الاغتيال الثالث بتهافت القنوات الإعلامية والمواقع الإخبارية وغير الإخبارية حتى في تناول الموضوع من أوجه عدة، تبتعد في بعض الأحيان عن المهنية وتقترب كثيراً من الشعبوية، وصولاً إلى فنون الصحافة الهابطة، والسينما التجارية، فقط لملء الوقت والصفحات وجذب الانتباه، وجمع متابعات وتحصيل “ترافيك” من أجل عيون “غوغل”.

ثم كان الاغتيال الرابع بدخول الرؤساء وقادة الشعوب والحكومات والمنظمات كالاتحاد الأوروبي على خط اغتيال أبو عاقلة، فالحكام يريدون تسجيل موقف باكتساب شرعية من نصرة قضية الأمة المحورية، وتثبيت فكرة أنهم مع الحقوق والحريات ومناصرين للإنسان أياً من كان وفي أي مكان.

والمنظمات كالاتحاد الأوروبي، تريد أن تثبت فكرة أنها مع الحقوق التي طالما بشر بها شعوبنا العربية والإسلامية ومدافعة عنها بإصدار بيانات باهتة مائعة لا طعم فيها ولا رائحة، فقط لذر الرماد في العيون، رغم أن مئات الألوف ممن تمثلهم شرين أبو عاقلة لم تتحرك لهم المنظمة إلا كما تحركت لشرين، فقط إدانة في بيان بضجيج لا نرى بعده طحين.

شرين أبو عاقلة التي غطت على مدى 25 عاما انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشجر والحجر والبشر في فلسطين، وكانت في ذلك مؤثرة بكلماتها وكاميراتها التي نقلت الحقيقة.. عرت ما تدثر به الاحتلال وأعوانه في الداخل ومن طبع معه من الخارج باتفاقات زائفة ووعود كاذبة.

شرين أبو عاقلة صوت الحقيقة الذي أسكته الاحتلال وظلمه الجميع لن تنساك الشعوب كما لم تنس، كل منحاز لقضاياها؛ من أبطال الأساطير الشعبية التي وجدت مكانها في مهود الأطفال قصة ترويها أم تغرس في طفلها حب الوطن.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى